سورة فاطر مكية وتشتمل على معان عظيمة في العقيدة وإثبات البراهين والدلائل على توحيد العبادة والخلق لله تعالى، والدلالة على رسالة النبي ﷺ بالصدق والقبول والانقياد، ونقرأ جزءا من هذه المعاني في بداية السورة والتي تستوجب على المسلم والمسلمة إمعان النظر في آياتها، وتدبر معانيها وبلاغاتها.
يقول الله تعالى في بداية سورة فاطر: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (1) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم (2) يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور (4)}.
– {فاطر السماوات والأرض} خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، من الفطر بمعنى الشق أي شق العدم بإخراج السماء والأرض.
فموضوع الآية: أن الله تعالى يحمد نفسه على عظيم قدرته وعلمه وحكمته التي يشهد عليها ابتداء خلق السموات والأرض من العدم، واختراعهما على غير مثال، قال سفيان الثوري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: هذه بئري وأنا فطرتها» أي بدأتها.
والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم، فهو قادر على الإعادة.
– {جاعل الملائكة رسلا} إلى الأنبياء، أي وسائط بين الله وبين أنبيائه، يبلغونهم رسالاته بالوحي، والملائكة: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل
{أولي أجنحة} أصحاب أجنحة، فمنهم من له جناحان، ومنهم له ثلاثة، ومنهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء.
جاء في الحديث الصحيح في المسند عن ابن مسعود «أن رسول الله ﷺ رأى جبريل عليه السلام، وله ست مائة جناح، بين كل جناحين، كما بين المشرق والمغرب».
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال:
(يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)
ولهذا قال جل وعلا
{يزيد في الخلق ما يشاء} أي في خلق الملائكة وغيرها. وهو استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك مقتضى مشيئته ومؤدى حكمته {إن الله على كل شيء قدير} فبقدرته يزيد ما يشاء.
وبعد بيان كمال القدرة بين الله تعالى أنه نافذ الإرادة والمشيئة والأمر، فقال:
{ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم} أي ما يعطي الله تعالى من نعمة حسية أو معنوية من رزق ومطر، أو صحة وأمن، أو علم ونبوة وحكمة، فلا مانع له، وما يمنع من ذلك فلا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه، بيده الخير كله، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع،
روى الإمام أحمد والشيخان عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله ﷺ كان إذا انصرف من الصلاة، قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله ﷺ كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: «سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد».
وبعد بيان كونه تعالى مصدر الخلق والرزق والنعم، أمر بتذكر نعمه والإقرار بالتوحيد فقال:
{يا أيها الناس، اذكروا نعمت الله عليكم، هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض، لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون} أي يا أيها الناس قاطبة، تذكروا نعم الله عليكم، وارعوها، واحفظوها بمعرفة حقوقها والاعتراف بها، وأفردوا موجدها بالعبادة والطاعة، فهو وحده رازقكم من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك، وأعلنوا توحيد الله وأنه لا إله إلا هو، وإذا أقررتم بذلك، فكيف بعد هذا البيان ووضوح البرهان تصرفون عن الحق: وهو توحيد الله وشكره، وتعبدون بعد هذا الأنداد والأوثان؟!
وبعد تقرير الأصل الأول وهو التوحيد، قرر الله تعالى الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال مسليا رسوله ﷺ عن تكذيب قومه:
{وإن يكذبوك، فقد كذبت رسل من قبلك، وإلى الله ترجع الأمور} أي وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون، ويعارضونك فيما جئت به من التوحيد، بعد إثباته بالأدلة والبراهين، فتأس بمن سلف قبلك من الرسل، فإنهم أيضا جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد، فكذبوهم وخالفوهم
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الله تعالى هو مستحق الحمد والشكر على قدرته ونعمه وحكمته، يقول الإمام الرازي: إحدى السور القرآنية الأربع المبدوءة بالحمد، فسورة الأنعام إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإيجاد، وسورة الكهف إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإبقاء، وسورة سبأ إشارة بالحمد إلى نعمة الإيجاد الثاني وهو الحشر، وهذه السورة إشارة بالحمد إلى نعمة البقاء في الآخرة، بدليل قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلا} أي يجعلهم رسلا يتلقون عباد الله تعالى.
2 – الله سبحانه هو مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق، وهو جاعل الملائكة ذوي أجنحة من اثنين إلى ثلاثة فأربعة، فأكثر، للطيران والتحليق هبوطا وصعودا بين السماء والأرض، وجاعلهم رسلا إلى الأنبياء، أو إلى العباد برحمة أو نقمة في الدنيا، ولتلقي عباد الله في الآخرة كما ذكر الرازي.
3 – الله تعالى هو الذي يزيد في مخلوقاته ما يشاء، سواء في خلق الملائكة، بالأجنحة الكثيرة، أو في الزيادة المادية الحسية أو المعنوية في خلق الناس، كالتميز بأنواع الجمال المختلفة في العينين والأنف والفم ونحوها، وحسن الصوت، وجمال الخط أو الكلام أو النطق.
4 – الله عز وجل تام القدرة على كل شيء بالنقصان والزيادة، والإيجاد والإعدام، وغير ذلك.
قال الزمخشري في آية {يزيد في الخلق ما يشاء.} الآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.
5 – الله عز وجل نافذ المشيئة والإرادة والأمر، فإذا منح نعمة لأحد، فلا يقدر أحد أن يمنعها، وإذا حرم أحدا نعمة، لم يستطع أحد إعطاءه إياها.
وبما أن الرسل بعثوا رحمة للناس، فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه.
وتنكيره الرحمة: {من رحمة} يفيد العموم والشمول، والإشاعة والإبهام، فهي متناولة لكل رحمة، سماوية كانت أو أرضية.
6 – على الناس شكر نعمة الله عليهم، بحفظها وأداء حقها وذكرها باللسان والقلب، وإفراد المنعم بالطاعة والعبادة والثناء عليه بما هو أهله، وإنهاء التعلق بالأصنام والأوثان وجعلها شركاء لله، وهو أبطل الباطل الذي لا يقره العقل المتحضر، ولا الإنسان المتمدن.
7 – لا أحد على الإطلاق يأتي بالرزق، فالله تعالى مصدر الرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات.
8 – يجب على الخلق جميعا إعلان توحيد الله، فالوحدانية في صحيفة الكون، في الضمير والوجدان، ومقتضى الفطرة، وفي ميزان العقل الراقي.
9 – إذ أثبت العقل ودلت آيات القرآن والكون وحدانية الله، فكيف يصح للبشر الانصراف عن هذا الظاهر، وكيف يشركون المنحوت بمن له الملكوت؟
التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة الزحيلي، دار الفكر (دمشق – سورية)، دار الفكر المعاصر (بيروت – لبنان)