من بين سير المستشرقين التي اطلعت عليها، تظل سيرة ريتشار فرانسيس بورتون واحدة من أكثرها إثارة وثراءً، فقد استطاع بورتون أن يجمع مناقب المستشرقين ومثالبهم بين جنبيه على نحو صارخ ومبالغ فيه! فهو ذكي إلى درجة تقارب العبقرية، موهوب في الكتابة والرسم وتعلم اللغات حيث يروى أنه كان يتحدث خمساً وعشرين لغة! وهو مغامر متهور إلى درجة غير مسبوقة، متلون إلى الحد الذي يجعله قادراً على انتحال شخصياتٍ عدةٍ في حياته الحافلة بالمغامرة والمخاطرة، وهو مستشرقٌ حقيقيٌ، اطلع جيداً على وضع المسلمين في مشرق العالم الإسلامي، وعمل ضابطاً في الاستخبارات البريطانية، وكتب عشرات المجلدات التي ضمّنها مشاهداته وأبحاثه وتحليلاته لوضع البلدان المسلمة التي أتيحت له زيارتها والإقامة بين أهلها والتحدث بلغاتها!
ولد بورتون عام ١٨٢١ للميلاد في مدينة توركي بجنوب بريطاني، لأبٍ عسكري لم يوفق كثيراً في عمله، ومنذ نشأته بذر فيه والده بذرة الترحال والتجوال إذ أرسله إلى إيطاليا، التي تعلم لغتها وعاش فيها قسطاً من طفولته، وسيعود إليها ليلقى بها حتفه بعد عشرات من السنوات.
بعد أن فرغ من تعليمه الأولي، التحق بجامعة أكسفورد، التي كانت -ولا تزال- من بين جامعات القمة في بريطانيا والعالم ككل، لم يكن بورتون منضبطاً كما يجب، ففُصل من الجامعة، وكان ذلك الفصل بداية فصل جديد من حياته الحافلة بالمغامرات والتضاريس الحادة!
مع ذلك المزيج العجاب الذي اجتمع في شخصية بورتون، من حب للتجوال، وحب للاستكشاف، وشغف بتعلم اللغات، وجلدٍ على المشاق، كان الالتحاق بالجيش البريطاني فرصة جيدة لحياة ثرية! كانت بريطانيا في تلك الأيام دولةً عظمى، تحتل بلاداً كثيرة تعيي من يريد إحصاءها، وكان من نصيب بورتون العمل ضابطاً في الاستخبارات البريطانية بالهند.
لم يكن بورتون ضابطاً عادياً، كان طلعةً فضولياً، شديد الجرأة، واسع الحيلة، وأمضى ثمانية أعوام في الهند، يتعلم ما أتيح له من اللغات، ويستكشف المجتمع الهندي، من قمته إلى قاعه العميق وعالمه السفلي، ولم يكن من الغريب أن يقع بورتون في شَركِ جرأته، فقد أدت إحدى مغامراته السيئة إلى ترك الجيش، والرحيل بعيداً، إلى فرنسا، قبل أن يقرر ادعاء الإسلام والتسلل إلى مكة المكرمة في هيئة حاج أفغاني:
سافر بورتون من أوربا عام ١٨٥٣ إلى مصر، فزار الإسكندرية، والقاهرة، ثم انطلق من السويس إلى ينبع عبر البحر، وكتب بقلمه الرشيق تفاصيل رحلته تلك، ونشرها في كتاب كبير حافل بالمخططات والرسومات التي خطها بقلمه. كانت ينبع حينها مدينة صغيرة يحيط بها سور لحمايتها، ويتوشح رجالها السلاح بكرة وعشياً.. ثم سافر رفقة قافلة إلى المدينة المنورة، في طريق مخوفةٍ عامرة بقطاع الطرق، وحدث بالفعل أن تعرضت القافلة للهجوم وفقدت اثني عشر رجلاً من طاقمها.
بلغت القافلة المدينة المنورة، وأقام بورتون لدى أحد أصدقائه، وقد وصف بورتون في رحلته المدينة المنورة وصفاً مفصلاً، وتناول بيوتها وعادات أهلها وبعض سماتهم الشخصية.
لم يكن للمسجد النبوي واجهة خارجية بالمعنى الدقيق؛ فقد كانت الدور والمدار تكاد تلاصقه، ولم يكن القائمون على خذمة المسجد النبوي يولون الصيانة ما تستحقه من الاهتمام، بسبب تغلغل الفساد وكثرة السرقات من الأموال الطائلة المخصصة لخدمة الحرم.
وبعد أيام من المقام في المدينة المنورة والتجول بين آثارها ومعالمها؛ تحركت القافلة إلى مكة المكرمة، كان بورتون يتخوف من أن يفتضح أمره، ويظهر للناس أنه متسلل إلى الديار المقدسة، وأنه “منافق” وليس مسلماً على الحقيقة، وهو بريطاني وليس أفغانيا كما يزعم. يقول في رحلته: “مكة المكرمة قريبة جداً من البحر الأحمر، في حالة افتضاح أمري يمكنني أن أهب في غضون ساعات قلائل إلى جدة حيث أجد نائب القنصل ليحميني من السلطات التركية”.
بعد رحلة غير آمنة، وصلت القافلة إلى مكة قبل يوم التروية، وذهب لزيارة المسجد الحرام، وكتب عنه قائلا: “أحسست بانجذاب صوفي وإحساس بالرضى”. وقال عن الكعبة: “إنه بيت الله رب إبراهيم وإسماعيل وذريتهما، سامية هي، معبرة بكل بلاغة وفصاحة عن الهوى والولوع بفكرة واحدة عظيمة ونبيلة هي التي بثت الحيوية في الإسلام وبثت القوة والثبات في نفوس أتباعه”.
في اليوم الموالي ذهب بورتون مع الحجيج إلى منى، ثم إلى عرفات، التي سلبت لبه، فكتب قائلا: “ليس هناك منظر أجدر بريشة الفنان من القمم الزرقاء القائمة خلف سهل منخفض أصفر وأجرد تنتشر علية خيام الحجيج”.. كان الشريف -حاكم الحجاز- موجوداً حينها، وكان المحملان: الشامي والمصري، المحتويان على كسوة الكعبة المشرفة، موجودين في عرفات، محاطين بالحرس. وغابت الشمس فانطلق الحجيج إلى مزدلفة والموسيقى العسكرية ترافقهم..
تمت المناسك فغادر بورتون إلى جدة، سعيداً باكتمال مغامرته التي لم يفتضح أمره أثناءها.
لم تكن تلك المغامرة الوحيدة لبورتون، فقد غطس في مجاهل إفريقية، وحاول -محاولة فاشلة- أن يصل إلى منبع النيل، وبعد بضع سنوات قطع المحيط الأطلسي إلى أميركا، وتجول فيها.
بعد أن تجاوز الأربعين من عمره؛ تزوج امرأة متنفذة، وكان زواجه نافعاً له، حيث فتح له الباب إلى الوظائف الحكومية من جديد؛ وعينته الدولة قنصلاً في فرناندو بو، إحدى الجزر التابعة لإسبانيا،، ثم في البرازيل، ثم في سورية، ثم في إيطاليا، التي عاش بها حتى وفاته.
كتب بورتون عشرات الكتب، بين يوميات ودراسات، وقام بترجمة ثلاثين كتاباً من لغات شتى إلى الإنجليزية، وكان منها كتاب “ألف ليلة وليلة”.
وعلى أبواب السبعين من عمره؛ فارق بورتون الحياة، مخلفاً وراءه سيرة عجيبة، بعدما عاش حياته بالطول والعرض، وخلّف وراءه سيرة تلفت الانتباه، وتختلط مشاعر من يطالعها بين الإكبار والدهشة والاحتقار.