الحب في الإسلام : خلق الله تعالى الإنسان ليأنس بالناس ويأنس الناس به، وجعل له قلبًا يحب ويكره. وكلما كانت العلاقة التي تحكمه بالآخرين هي الحب المتبادل، كان أقرب إلى الاستقرار النفسي والروحي، ومن ثم يتفرغ لأداء مهمته في الكون. ومهما لقي من عقبات، يستطيع تجاوزها بفضل الله تعالى ثم بوقوف المحبين له إلى جواره.
وهذه المحبة من أكبر الدوافع للقيام بعمل ما أو عدم القيام به. ومع ذلك، تجد من يخوفك من الحب ويعتبره من أكبر الموبقات، وفي المقابل تسمع من يقول: “وهل للحياة قيمة بلا حب؟” يتداول الناس الحديث عن الحب خارج إطار الزواج، ويقل الحديث عن الحب بين الزوجين: هل هو واجب أو سنة أو مندوب أو مباح؟ كما يخفت الحديث عن حالة غياب الحب بين الزوجين: هل يعد ذلك من سوء العشرة، ومن ثم فهو معصية للأمر الإلهي {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]؟ وهل غياب الحب يستلزم الطلاق أو يستوجب البحث عن أسباب الفتور أو حتى البغض لعل الزوجين أو من يمكنه الإصلاح يتبين طريق السعادة ويساعد على السير فيه؟ نحاول خلال هذه السطور أن نتبين معًا موقف الإسلام من الحب.
أنواع الحب في الإسلام
تتعدد أنواع المحبة عند المسلم على النحو الاتي :
- محبة الله تعالى
- ومحبة رسوله ﷺ
- ومحبة الصالحين من عباد الله – أيا كان زمانهم ومكانهم – في قمة الأولويات
- وهناك محبة الوطن أو بقعة يأمن الإنسان فيها على نفسه ويتمكن من عبادة ربه
- ومحبة العلم
- ومحبة معالي الأمور
- ومحبة الخير للناس
- ومحبة النساء والبنين والقناطير والمال الذي يأتي من حلال وينفق فيما يرضي الله.
هل الحب حلال ام حرام ؟
يمكننا الحديث عن المسموح والممنوع في الحب من عدة جوانب:
الجانب الأول
العين والأذن من المنافذ التي يطلع منها القلب على البشر والكائنات. وبإمكان المرء أن يختار ما ينظر إليه ومن ينظر إليه. وبإمكانه إذا رأى امرأة يدرك من النظرة الأولى أنه سيتعلق بها أن يصرف نظره. فإن استطاع أن لا تصل عينه لمحرم، فهذا من نعم الله تعالى عليه. لكننا ندرك جميعًا أن ظروف العمل والحياة والشارع لا تتيح لنا أن نختار ما تقع أعيننا عليه. ومع هذه الضغوط الهائلة من زينة تقول صاحبتها للناظرين: “هيت لك”، ومن تأخر لسن الزواج، ومن موجات تحلل من الأخلاق، نستحضر قول النبي ﷺ: “وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ”[1]. ولعل زماننا هذا يدخل في إطار ما أخبر عنه النبي ﷺ: “إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ”. قال أبو داود: “وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ” [2].
الجانب الثاني
إن المسلم يشغل وقته وفكره بما ينفعه في دينه ودنياه وآخرته. ويتعلم خلال هذا الانشغال بما ينفعه أن يطرد ما يصرفه عن هدفه وألا يسترسل مع الخواطر التي تؤجل الإنجاز أو توقفه. وبذلك تقل أوقات الفراغ عنده، وعندما توجد ينتفع بها في التقوي والاستعداد لخطوة جديدة تقربه من تحقيق أهدافه.
الجانب الثالث
قد يهجم الحب على الرجل أو المرأة دون سابق إنذار. نستطيع أن نُقيّم هذه الحالة من خلال ما جاء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله ﷺ يقسم فيعدل فيقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ»، قال إسماعيل القاضي: “يعني القلب. وهذا في العدل بين نسائه”[3].
قال ابن بطال عند شرحه لهذا الحديث: “كل ما كان عارضًا لقلب ابن آدم من شيء مال إليه بالمحبة والهوى مما لم يجتلبه المرء إليه باكتساب، ولم يتجاوز به العارض منه في قلبه إلى ما يكرهه الله ولا يرضاه من العمل بجوارحه، فلا حرج عليه فيه ولا تبعة تلحقه فيما بينه وبين الله بسبب ما عرض له من فرط هوى وصبابة نفس”. يبرئ ابن بطال المحب من الإثم بشرطين:
- الأول: إذا لم يسع لهذا الحب،
- والثاني: إذا بقي في القلب دون أن تتحرك الجوارح لتلبية الشوق؛ بنظرة لا تحل أو كلمة معسولة تكتب في صحيفة السيئات أو غير ذلك مما لا يرضاه الله لمسلم طائع وما لا يرضاه صاحب الفطرة السليمة على محارمه، وإذا كان الإنسان لا يملك قلبه فإنه يملك يده ورجله وعينه،ومفهوم التزكية أنها محاولة إصلاح مستمر لكل خلل طارئ على الخلق يصحبها نية صالحة وصبر جميل واستعانة بالله تعالى.
وواجب المسلم أن يكون صاحب رسالة في هذه الحياة ،لذا علينا أن نسأل أنفسنا عندما نطلق البصر يمينا ويسارا ونستجيب لنداء القلب الذي يحب الجمال: متى يستريح القلب ومتى يشبع ومتى نصل لأهدافنا التي نحقق بها رضا الله تعالى وعمارة الأرض ونفع الناس؟
الإعلان عن الحب
قدم النبي ﷺ نموذجا للحب الطاهر الذي ينبغي أن يملأ القلوب المؤمنة وكان من أمره ﷺ أنه يعلن هذا الحب ولايخفيه ،عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: “حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ”[5]، وعندما يسأل من أحب الناس إليك يجيب بلا مواربة عائشة[6]،واقتدى به المؤمنون في إعلان هذا الحب،عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: خَطَبَ رَجُلٌ شَابٌّ امْرَأَةً قَدْ أَحَبَّتْهُ، فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهَا إِيَّاهُ، فَسَأَلْتُ طَاوُسًا، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابِّينَ مِثْلُ النِّكَاحِ»، وَأَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَ[7]
ضوابط الحب في الإسلام
وهذا الحب الذي يدخل على القلب بلا استئذان حتى يكون نافعا ويحقق الغاية منه، نتذكر قوله ﷺ:”أنت مع من أحببت”[8]
- فانظر إلى من تحب إذا وقف الخلق بين يدي الله تعالى يوم القيامة، أين سيكون من تحب، مع الصالحين أو مع المغضوب عليهم والضالين؟ لأنك ستكون معه.
- ثم اعلم أن القلب سمي قلبا لأنه يتقلب؛ فتارة يحب وأخرى يكره ما يحب ولذلك أحبب حبيبك هونا ما، لا تسرف في الحب إسرافا يسلبك حريتك وتأمل في وقائع الحياة كيف انقلبت المحبة إلى عداوة لم تراع فيها عشرة قديمة ولا ذكريات طيبة ولا أمانة كتمان السر.
- أن يتوج هذا الحب بالزواج ذلك الإطار الطاهر الذي يجمع بين قلبين وجسدين في بيت واحد طاعة لله تعالى وتحقيقا لمراد الله عز وجل من خلق الإنسان.
- أو يقطع الإنسان رجاءه في وصل من يحب طالما سدت أبواب الحلال وهذا أقصر الطرق لإراحة القلوب المتعبة بالحب.
ترجمة الحب إلى سلوك
ترجم المسلمون الأخيار الحب إلى مكانة اجتماعية رفيعة تحترم فيها إنسانية المرأة وتقدر أهليتها الكاملة فتستشار أو تقدم استشارتها، وتطاع عندما ترى رأيا صحيحا لم يتوصل له الرجال.
كما صاغوه في علاقة يدرك فيها كل طرف حقوقه وواجباته، وتتحمل فيها المرأة مرض الزوج وفقره ويتحمل فيها الرجل ما يصيب المرأة من آلام نفسية وجسدية، يبنيان معا بيتا متماسكا ويحرسان هذا البيت من شياطين الإنس والجن الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، عندما تحدث أزمة يجد أحدهما أقرب الناس إليه شريك العمر وقسيم الروح فيستند عليه فيجد جبلا شامخا وقلبا عطوفا ولسانا ينطق بعبارات المواساة والتشجيع، يلاحظ كل منهما قربه من الله وطاعته له سبحانه كما يلاحظ قرب الآخر وبعده، يقدم كل منهما النصيحة لتكون حياتهما على الطاعة ما استطاعا إلى ذلك سبيلا ويستغفران الله تعالى من كل تقصير في حقه سبحانه أو في حقوق الأسرة أو المجتمع والأمة، يتحبب كل منهما إلى أسرة الآخر بالكلمة الطيبة والاستقبال الحار وتقديم الهدية التي تنم عن الذوق والحب والرغبة في المحافظة على الود وإصلاح ما يمكن أن يحدث من سوء فهم أو تقدير للموقف. يشعر أحدهما أن أسعد أوقاته تلك التي يقضيها مع زوجه.
عندما تحدث مسألة ما تحتاج لتداول الرأي بين الزوجين الحبيبين تجد كل منهما يشير على صاحبه أولا ثم يبحثان معا عن أهل الاختصاص سعيا للرأي السديد الرشيد، يمتلكان القدرة على إدارة الاختلاف عندما تتعدد وجهات نظرهما وحسن إدارة الاختلاف أساسه الحب ورغبة الطرفين في الوصول إلى ما فيه خير الأسرة وليس غلبة الرأي.
بينما يترجم الحب الذي لا يتقيد بدين أو خلق إلى عقوق للوالدين عندما يريان الزواج غير مناسب ويتضح بعد مدة من الزمن قليلة أو كثيرة أن رأيهما كان عين الصواب، ويتحول إلى علاقة غير مشروعة تذبح فيها الفضيلة ويتجاوز الرجال والنساء كل الخطوط الحمراء التي تعارف عليها أصحاب الفطر السليمة عهودهم مع الله.
استمرار الحب بعد موت المحبوب
عنما تسمو العاطفة تبقى الذكريات وإن رحل أصحابها ويظل مكانهم في القلب خاليا تحضر سيرتهم وصورتهم عند أدنى ذكر ،توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها لكن رسول الله ﷺ كان دائما ما يتذكرها، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكْثِرُ ذِكْرَ عَجُوزٍ حَمْرَاءَ الشَّدَقَيْنِ وَقَدْ أَعْقَبَكَ اللَّهُ مِنْهَا فَتَمَعَّرَ [تغير] تَمَعُّرًا لَمْ أَرَهُ يُصِيبُهُ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ أَوْ عِنْدَ مَخِيلَةٍ[سحابة يغلب على الظن وجود المطر منها] حَتَّى يَعْلَمَ أَرَحْمَةٌ هِيَ أَمْ عَذَابٌ[9].
الخاتمة
إن الحب حين يكون عاطفة إنسانية فإنه يحمل كل معاني التآلف والانسجام والتقدير والحنان هذا مع الاستعداد للتضامن في مسرات الحياة وأحزانها وفي رخائها وشدتها ومثل هذا الحب لا يمكن أن يتم بين اثنين عاقلين إلا بعد صلة عميقة وخبرة طويلة تمكن كلا من الطرفين من معرفة صاحبه وإدراك العناصر التي تؤسس الحب وتنميه وإلا كان مجرد إعجاب لحظه نتيجة أمر عارض أو مظهر خادع فإن اللقاء العارض يصح أن كيون بداية طريق الحب لا أَوْجَه وقمّته أي هو خطوة البداية تتوالى الخطوات بعده وتتقدم حتى تصل إلى الأَوْج أو تتراجع حتى تصل إلى القاع.
إن الله جميل يحب الجمال لكن لابد أن يكون مع جمال الصورة جمال الشخصية بأخلاقها وفضائلها أي أن الله يحب مع الجمال الحق ومع الحق الخير ولذلك فالدين لا ينكر الحب الجميل بل هو يريد له تمام الجمال يريد أن يصونه ويحوطه ويرعاه يصونه من الابتذال ومن كل ما يشينه حتى يتوثق برباط الزوجية ويحوطه حتى لا ينقطع تحت ضغط شدائد الحياة ويرعاه حتى يثمر ويمتد في براعم الذرية.
إن الدين ما جاء ليكبت المشاعر الإنسانية إنما جاء ليهذبها ويوجهها وجهة الخير وليسعد بها الإنسان ويُسعد من حوله لا ليشقى بها ويُشقي من حوله [10].