في حياة الإنسان تتجلى العديد من العواطف التي تضفي على وجوده معنى وعمقًا، ومن أسمى هذه العواطف عاطفة الحب، التي تتنوع أشكالها وتجلياتها. لكن الحب ليس دائمًا قصة سعيدة متبادلة بين طرفين؛ أحيانًا يكون من طرف واحد، مما يجعله مصدرًا للألم والتأمل العميق في مشاعر الإنسان وتعقيداتها. في هذا المقال، نستعرض واحدة من أروع القصص التي وردت في السيرة النبوية، قصة مغيث وبريرة، التي رغم أنها لم تكلل بالنجاح، إلا أنها تحمل في طياتها العديد من العبر والدروس حول الحب، والعاطفة، والحقوق في الإسلام. من خلال هذه القصة، نتعرف على كيفية تعامل النبي ﷺ مع مشاعر الناس، واحترامه لحقوقهم واختياراتهم، مما يعكس فهمًا عميقًا للطبيعة البشرية واحتياجاتها.
زين الله تعالى الإنسان بعواطف عدة يمكن أن تعمر حياته الدنيوية وترفعه في سلم الإنسانية وتكون سببًا لنيله أعلى المقامات الدينية، ومن هذه العواطف عاطفة الحب وشعبها كثيرة، لكننا نختار منها حب المرأة لزوجها والعكس. ونحن نتوقع أن نجد زادًا كبيرًا وحديثًا مؤنسًا في كتب الأدب عن الحب ولوعة الشوق وما يكابده المحبون، لكننا نجد في دواوين السنة والسيرة قصص حب رائعة تدل على العاطفة الجياشة والعفة جنبًا إلى جنب.
قصة مغيث وبريرة: حب من جانب واحد
ومن بين هذه القصص قصة حب من جانب واحد يقابله بغض من الجانب الآخر. يتدخل النبي ﷺ شفقة للمحب العاشق الذي يريد أن يتوج حبه بوصل ما انقطع من رابطة الزوجية، وكان تدخله ﷺ من باب الشفاعة وليس من باب الأمر، فالقلوب لا تعرف الإكراه حتى لو نطقت الألسن بما يحب المُكْرِهون.
تعريف بشخصيتي مغيث وبريرة
كانت أبطال قصة الحب هذه مغيث وبريرة. أما بريرة فكانت جارية بيضاء كما يقول ابن جماعة، قيل من الأنباط وهم عوام الروم وقيل من القبط وهم أهل مصر، وربما كانت رومية الأصل استوطنت مصر ثم بيعت لأحد العرب كجارية. حررت نفسها بمقابل تدفعه بالتقسيط، وكانت أول من فعل ذلك في الإسلام وطلبت مساعدة السيدة عائشة رضي الله عنها لكي تنال حريتها بأسرع وقت. وكانت السيدة عائشة تدرك قيمة بريرة فعرضت عليها أن تدفع لها ثمن حريتها نقدًا وحالًا. قال الراوي: “ونفست فيها”.
وأتصور أن لها هذا القدر من القيمة العالية فقد سعت إلى الحرية مع صعوبة الطريق وطوله؛ إذ عليها أن تدفع كل عام أوقية من فضة لمدة تسعة أعوام. قالت بريرة للسيدة عائشة: “تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني“. ومن دأبها وسعيها أنها سددت أربعة أقساط وعليها خمس أواقي نجمت [قسمت]. قال ابن حجر في الفتح: “كانت بريرة جميلة غير سوداء بخلاف زوجها”.
مغيث: حب مستمر رغم الانفصال
أما مغيث الذي كان زوجًا لبَرِيرَة فكان عبدًا أسود. عاشا سويًا ورُزِقا بأبناء، لكن هذه المدة وهؤلاء الأبناء لم يوثقوا الرابطة الزوجية بينهما، وكان الحب من طرف واحد، بينما الطرف الآخر في واد آخر. ومع غياب الحب إلا أن الحقوق تصل لأصحابها، وهذا ما نظنه بدين بريرة وخلقها رضي الله عنها. استمر هذا الزواج مدة ثم اختارت بريرة الطلاق بعد أن تحررت من العبودية، فطلقت وظل مُغِيث على حبه لها بعد الانفصال، وكان هذا الحب عاصفًا بقلبه، فتمنى أن تعود له زوجة لكنها رفضت رفضًا تامًا، ومع تدخل النبي ﷺ كشفيع لكي تعود إلى زوجها إلا أنها أصرت على موقفها.
العبرة من قصة مغيث وبريرة
أهمية الحوار والتفاهم في الزواج
ولنتوقف هنا وقفة مهمة؛ بعد الميثاق الغليظ الذي نال به كلا الزوجين من الآخر ما لا يحل لغيره يتوقف بعض الأزواج والزوجات عن العشرة بالمعروف، ويتوقف الأزواج عن الإمساك بالمعروف وإبقاء عقدة النكاح واستمرار الزوجية بما يرضي الله تعالى، كما تتوقف بعض النساء عن حسن معاملة الزوج، ذلك أنها لا تحبه وقلبها لا يميل له ويبدون في ذلك أسبابًا منها أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء وأن لكل وجهة هو موليها.
ومع رعاية الإسلام لمسألة المشاعر القلبية إلا أنه لا يأذن أبدًا للزوج أو الزوجة بحرمان الطرف الآخر من الحقوق لأن القلب لا يميل له. ثم لنسأل: لماذا يجتمع الزوجان في بيت واحد وعلى طعام واحد ثم يحدث كل هذا التنافر؟ لعل أحدهم لم يسأل نفسه: ماذا أصنع لكي أستبقي المودة؟ ولعل أحدهم لم يلاحظ الفتور العاطفي من الطرف الآخر الذي قد يتحول بمرور الزمان إلى نفور. هذه المسائل المهمة في الحياة الزوجية، هل يختلي كل طرف بنفسه ليفكر فيها مليًا ثم يجلس مع الطرف الآخر في مناقشة هادئة بعيدًا عن الانفعال والتشنج؟
لأن الحياة الطبيعية بين الزوجين تتأثر كثيرًا مع غياب المودة والرحمة والحب. هذا إذا كان التنافر أو التباغض من الطرفين، فكيف يكون الحال إذا كان الحب من طرف واحد يعاني تباريحه وآلامه، بينما الطرف الآخر يتمنى إنهاء العلاقة أو ينهيها بالفعل.
نهاية القصة: درس في التوازن بين القلب والعقل
مشهد البكاء المر من مغيث الزوج السابق الذي تسيل منه الدموع حتى تبتل لحيته ولم يكتف بأن يكون ذلك سرًا بينه وبين نفسه، بل يظهر منه كلما رآها ولا يترك رؤيتها لتكون بلا ترتيب، بل يسير خلفها في الطرقات. فانظر كيف وصل به العشق إلى هذا المستوى. وإننا لنرثى لمن كان حاله كحال مغيث يستسلم لقلبه هذا الاستسلام. هل لم تظهر بريرة هذا البغض إلا بعد سنوات؟ والعقل والحكمة تقتضي الصبر لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، أم أن البغض كان ظاهرًا ولم ينتبه له مغيث أو فسره بتفسيرات أخرى؟ إننا عندما نضع هذه الاحتمالات إنما نحاول تفسير هذا الموقف لننتفع بما فيه من عبر تتصل بجوانب كثيرة من حياتنا.
دروس مستفادة من قصة مغيث وبريرة
أهمية الحوار والمرونة في الزواج
نحاول تقديم التفسيرات المختلفة للكراهية الراسخة من جانب بريرة لعلنا ندفع ما نراه من تنافر بين زوجين. ولنتسأل: هل من جلسة يتباحث فيها الطرفان عن أسباب هذا البغض؟ هل هو اختلاف في الطباع لا يمكن أن يحدث التقارب أبدًا؟ هل بسبب سوء فهم وعدم توافر فرص للحوار لكي يزول سوء الفهم؟ هل يمثل أحدهما بحرًا من العواطف بينما يمثل الآخر الجفاف العاطفي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؟ هل جربا الاشتراك في عمل شيء ما أو التفكير سويًا في قضية ما لكي يتيحا لأنفسهما فرصة للتقارب؟ هل استولت الكراهية على الرجل أو المرأة أو كلاهما دون أن يعطيا لأنفسهما العديد من الفرص والمحاولات لتقريب وجهات النظر وإمكانية العيش المشترك؟
الطلاق كحل أخير: متى يكون الانفصال هو الخيار الأفضل؟
ونحب أن نسجل أن هناك من حُرِم من الحكمة وفهم طبيعة الحياة، فإذا حدثت مشكلة ما اسودت الدنيا في عينه وانسد الأفق وسارع إلى قرار الانفصال دون أدنى محاولة للإصلاح أو التقريب. أصحاب النفس القصير هؤلاء لا يبنون أسرة ولا يحافظون على علاقة. الكراهية التي تتنافر فيها الحقوق فتعجز الأجساد والألسنة عن القيام بما يجب عليها من واجبات شرعية وإنسانية واجتماعية وهذا لا يليق بمسلم يدرك أن الزواج يرتب حقوقًا متعددة لكل طرف على آخر وأن هذه الحقوق تؤدى مع الحب أو الفتور أو الكراهية، وهذا من بين ما يسأل المسلم والمسلمة عنه.
فإذا استمرت الكراهية ولم تنفع معها محاولات الإصلاح الجادة والمتكررة والمبنية على فهم طبيعة كل طرف والصبر الذي يقوم به الطرفان – وهو جزء ضروري من العلاج – عند ذلك نطرح فكرة الانفصال. وعند ذلك لا يصح أن نعيب على الطرفين ولا أن نصفهما بالفشل في الحفاظ على كيان الأسرة، فقد يكون كل طرف ممتازًا لكن التوافق غائب ولذلك شرع الطلاق لأن مبنى الحياة على السكن والتنافر يتنافى مع السكن.
الحب بين المودة والوفاء
نحن نؤكد على أن الاختلاف سنة بشرية بين كل الناس، وأن وجوده في البيت أمر قائم ومحتمل، وأحيانًا يكون مفيدًا وصحيًا عندما تتعدد وجهات النظر وتصدق النوايا. وأحب أن أؤكد على أن الاختلاف الذي منشؤه العناد فقط سيؤدي حتمًا إلى النكد الزوجي ثم الانفصال عاجلًا أو آجلًا.
وإننا لنسجل إعجابنا ببريرة رضي الله عنها حين كانت واضحة في قرارها وموقفها، فحين رأت أن العشرة مستحيلة اختارت أن تتوقف عن دفع فاتورة ثقيلة والعيش في ظل حياة لا تطيقها، بينما هناك أخريات يسمح لهن تربيتهن وأخلاقهن أن يكن في عصمة رجل تبغضه ولا تطيقه وتلتقي بآخر يميل قلبها له وتعطيه ما لا تعطيه لزوجها ثم تنام قريرة العين لا يؤنبها ضميرها على هذا النفاق والفساد والفحش.
كما نتعلم من محاولة النبي ﷺ الإصلاح بين مغيث وبريرة استخدام الوجاهة فيما ينفع الناس من الإصلاح، وهو أمر يرتب الحقوق على أصحاب القبول الاجتماعي أن يبذلوا من وقتهم لجمع الشمل شكرًا لله تعالى على نعمة القبول. ويكسبنا الحديث مهارة ينتفع بها من يستخدمون قبولهم الاجتماعي في الإصلاح بين الناس، وهي محاولة تليين القلوب بين الزوجين بالتذكير بالأولاد، وهم رباط قوي وأحد أهم أسباب استبقاء العشرة وتحمل أذى الطرف الآخر.
التعبير عن الحب
يستحي كثير من الرجال من إظهار مشاعرهم ويرون ذلك نقصًا في الرجولة، وكم من عظيم أظهر حبه، ويكفينا سيد الخلق حين أجاب بلا مواربة عندما سُئل: “أي الناس أحب إليك؟” قال: “عائشة“. بل إن مغيثا يجتهد في الحفاظ على هذا الحب ويستعطف حاله النبي ﷺ فيقدم على شفاعة لعل المياه تعود إلى مجاريها.
موقف نبوي من شفاعة الحب
ونجد استخدام بريرة لحقها مع التزامها بالأدب الكامل حين قالت: “لا حاجة لي فيه”. وهذه الشفاعة النبوية الكريمة تنبئنا أنه لا محل للإكراه في قبول الزوج أو البقاء معه، وهذا ما فهمته بريرة لذلك قالت: “لا حاجة لي فيه. ولم تسجل كتب السنة فيما وقفت عليه من مراجع تعنيف النبي ﷺ لبريرة على موقفها الرافض لهذا الحب العميق الجارف من رجل كان لها زوجًا يومًا ما، بل سجلت تعجبه ﷺ من حب كبير من جانب مغيث يقابله بغض كبير من جانب بريرة.
وما لنا ندفع الحياة التي انقطعت أسبابها إلى السير قدمًا رغم العناء الذي يواجه الأسرة، فأحيانًا يكون الطلاق هو الحل مع ألمه. إننا حين نتحدث عن الحب، يقفز إلى الأذهان تلك الصورة التي كونتها الروايات والأفلام عن المغازلة والمواعدة التي تصل إلى الفاحشة أو تقترب منها، وهذا ما لا يقبله صاحب خلق ودين بل لا يقول به صاحب فطرة سليمة. إن الحب شيء آخر غير ما يفعله البعض من فحش وقبح مهما ألبسوه من ثياب وكسوه من عبارات جميلة. إن الفضيلة والعفة يكسوان سلوك المسلم وعاطفته في حبه وبغضه وزواجه وطلاقه، وهو يضع نصب عينيه قول الله تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) [الإسراء: 36].
التوازن بين الحب والعقل: درس من قصة مغيث وبريرة
إن الميل بين الرجال والنساء يجب أن ينتهي بالزواج أو بقطع الرجاء، لأن تعلق القلب بما لا يمكن وقوعه أحد الأمور المنغصة للحياة والمفسدة للمعيشة. ونحن إذ نتحدث عن هذه الحالة المتكررة والتي يجتمع فيها حب وبغض، ينبغي أن نتباحث طويلًا وعميقًا في سقي شجرة الحياة بين الزوجين وإمدادها المستمر بما يبقيها مورقة مزهرة مثمرة، وهذه المسؤولية مشتركة بين الزوجين ابتداء وبين الأسرتين والمجتمع.
الوفاء: أساس العلاقة الزوجية الناجحة
وإذا كان الحب بين الزوجين يظهر ويختفي، فإن الوفاء ينبغي ألا يغيب عن المشهد أبدًا، وكذلك ينبغي أن يكون السعي الحثيث الذي لا يمل صاحبه ولا ييأس من أن يكون الوفاء أحد أسباب الحب، وأن نجتهد في ما يقرب القلوب لبعضها وفي إزالة ما يعكر صفو الحياة الزوجية، ونتذكر ألا نسرف في الحب والبغض: “أحبب حبيبك هونا ما”.
الحب في زمن النبوة
وختامًا، هذا مشهد من مشاهد الحب الذي يعجز صاحبه عن لجم قلبه والتحكم فيه، فقد تغلغل الحب في حناياه، وللحب سلطانه وصولجانه. وقد بيّن النبي ﷺ ذلك فقال: “اللهم هذا قسمي فيما أملك”. لكننا نحاول أن نقلص من هذا السلطان حتى لا يؤذينا ويؤثر على مسار حياتنا، فنشغل أنفسنا بالحق، ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.