تؤدي العبادات في الإسلام عدة غايات على رأسها طاعة الله تعالى وتحقيق المراد من الخلق، ولابد أن تترك العبادات أثرها على القلوب نورا وانشراحا وفي السلوك طهارة وتزكية، ومن بين العبادات ذات الأثر البالغ على دين المسلم ودنياه عبادة الحج خصوصا في مجال تزكية النفس وتربيتها، فالحج مدرسة التزكية الكبرى إذا تأملنا مناسكه وخطواته. ويمكن تناول أوجه التزكية في عبادة العمر من خلال ما يلي:
1- حسن التوجه إلى الله تعالى {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } [البقرة: 197] يعلمه سبحانه ويجازي به الجزاء الأوفى، كم من الناس من يفعل الخير دون أن يدري به أحد لكنه يفاجئ ساعة التكريم أنه في صفوف المتفرجين والمهنئين، بينما كان ينتظر أن يكون في المقدمة، إن هذه الجملة القرآنية الكريمة لتطيب خاطر هؤلاء الذين يكدون ويسعون دون أن يشعر بهم أحد، وتنبههم إلى النظر إلى الملأ الأعلى، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، فإن لم يجدوا شيئا عند الناس فلا يحزنون ولا يبتئسون، ولا ينبغي لهم أن يتوقفوا عن العمل {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [الزلزلة: 7]، أي يراه في الدنيا ويراه في الآخرة، وهذه الجملة القرآنية الكريمة تفتح أبواب الرجاء على مصراعيها، { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 158] فالله سبحانه وتعالى يستقبل ما يفعله عباده الصالحون، فمن تطوع بالشكر والإحسان مهما كان هذا العمل قليلا فإن الله ينير قلوبهم ويمن عليهم بالسكينة ويملأ بيوتهم بالسعادة ويرزقهم البركة والرضا والتوفيق وفي الآخرة مغفرة ورضوان، ترى أي تكريم للعبد على أعماله يمكن أن يقترب من شكر الله لعبده وإحسانه إليه!
على أن التزكية التي تقوم بها فريضة الحج من لفت نظر المؤمن إلى ما عند الله، وما عند الله خير وأبقى، لا ينبغي أن تحملنا على إهمال حقوقنا وتضييعها أو يكون ذلك ذريعة للبعض، لكي يحول بين الناس وبين الحصول على حقوقهم لأن الله تعالى سيجازيهم عليها في الآخرة.
2- ومن مظاهر التزكية في فريضة الحج كف اللسان عما لا يليق {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] منذ أن يحرم الحاج ينبغي عليه أن يضبط لسانه. والتوجيهات في اجتناب آفات اللسان كثيرة ومتعددة، لكنها تتأكد منذ أن يحرم المسلم بالحج، فالزمان شريف والمكان له قدسيته والقلب مهيأ لطلب المغفرة والسير على الصراط المستقيم، فكيف يزيد المسلم من خطاياه بإطلاق لسانه، وقد ذهب لمحوها، وأمام المسلم فرصة عظيمة منذ أن يحرم بالحج لكي يضبط لسانه ويعوده على النطق بالخير ويكفه عن الشر وقبيح الألفاظ والتلميحات التي تخدش الحياء وتجرأ على الإثم .
إن معظم النار من مستصغر الشرر، ومما يستصغره الإنسان وهو عظيم عند الله تعالى الكلمة، فإن بكلمة واحدة يستحق الإنسان ما لأخيه المسلم من حقوق، وبكلمة واحدة يتزوج الإنسان أو تحرم عليه زوجته، وبكلمة من هنا وكلمة من هناك يتكون رأي عام وقناعة بأمر صحيح أو خاطئ، وبكلمة لا نلقي لها بالا نزرع الباطل ونزحزح الحق.
انتشار الكلمات الفاحشة في مجتمع ما جاء نتيجة لأناس لا يقدرون للكلمة قدرها، ولا يدركون إلى أي مدى يمكن أن تبلغ، ويلي انتشار الكلمات البذيئة انتشار الأفعال القبيحة بعد أن قبل الناس بالقبح شيئا فشيئا وصار أمرا طبييعيا نستنكر على من يستنكره!!!
إن الجرائم الكبرى التي تهز المجتمعات جاءت نتيجة لانتشار ثقافة وجدت مكانها بيننا من خلال كلمات أغنية مبتذلة أو مشاهد لا تليق روجت للقبح وطاردت الجمال بكثرتها وإتاحة المجال لها حتى تقلصت مساحة الخير في النفوس.
إن اللسان يغرف من القلب فلكي تخرج الكلمة الطيبة من اللسان لابد أن يكون القلب مليئا بالطيبات، ومما يملأ القلب بالخير ويجدد الإيمان في النفوس ويحيا فيها تعظيم الله تعالى المواظبة على الذكر، ومواضعه في عبادة الحج كثيرة {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 199، 200] {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ولعل الإنسان يذكر الله بلسانه أولا حتى يحب الذكر فيذكر الله بلسانه وقلبه، ويستحضر المعاني العظيمة للذكر حتى يحولها إلى قيم تحكم سلوكه وترشد إلى الخير وتجعل منه نموذجا للإنسان الصالح الذي تظلله السكينة والأخلاق الكريمة.
3- ومن مظاهر التزكية في فريضة الحج ما ذكره الله تعالى جل شأنه عن خليله إبراهيم عليه السلام وهو يرفع القواعد من البيت الحرام {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، وحين نرى الكعبة المشرفة فإننا نتذكر ما كان من الخليل عليه السلام وهو يرفع قواعد أعظم بناء على وجه الأرض، وأي شرف وفخر ناله إبراهيم عليه السلام، ومع ذلك يطلب من الله تعالى القبول، وإن البعض عندما يقوم بعمل ما تصاب ذاته بالتضخم ويشعر بأنه أتى بما لم تستطعه الأوائل، بينما الخليل عليه السلام يرشدنا إلى وجوب تزكية النفوس بالتواضع لله تعالى وطلب القبول منه جل جلاله، فأكبر ما يحطم النفوس ويؤخرها عند الله تعالى وعند الناس هو الغرور والكبر، وأكبر ما يوقف مسيرة الإنسان ويمنعه من التقدم هو الغرور والكبر .
ولنا في رسول الله ﷺ الأسوة الحسنة، فإنه أثناء دخوله ﷺ مكة فاتحا منتصرا منهيا عهد الكفر، وقد خضعت له رقاب من تكبروا وتجبروا وآذوا المسلمين، ودانت له أعظم مدن الجزيرة العربية ومحط أنظار أهلها، دخلها النبي ﷺ مطأطئًا رأسه ليشعر الجميع بأن أعظم ما نقدمه من شكر لله تعالى على التوفيق للنعم العظيمة أن نتواضع لله تعالى ليرفعنا ربنا في الدنيا والآخرة.
4- ومن مظاهر التزكية في آيات الحج التذكير بلقاء الله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196] {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] هذا اللقاء الأكيد والقريب يكف النفوس المؤمنة إذا مسها طائف من الشيطان يحرضها على الظلم والعدوان وانتهاك حرمات الله تعالى، ويجعلها تحسب ما يعود عليها من لذة مؤقتة وعذاب أليم، فتجد أن كفة اللذة مرجوحة، بل لا قيمة لها. وهذه الجمل القرآنية الكريمة تذكر المسلم بأن “من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه”.
إن فريضة الحج فرصة لتزكية النفوس لتقصد وجه الله تعالى وحده، ولتستبدل الرفث والفسوق والعصيان بالقول الحسن والبر والتقوى ولتستبدل بالجدال السعي للوفاق.
إن تزكية النفوس هي المهمة الدائمة التي ينبغي على المسلم أن يقوم بها تجاه نفسه وتجاه من يحب، لا تتوقف في زمن من الأزمان، فإن كنت ممن عزم على الحج هذا العام فاستحضر هذه المعان،ي وإن سبق لك الحج فتذكر فضل الله تعالى عليك وما منحك من فرصة للتزكية، فاحرص على استعادتها واستدامتها لتحقق عبوديتك لربك وتستنزل رحمته وفضله وإحسانه.