الحديث النبوي ذو أهمية كبيرة في بناء المعرفة والتراث الإسلامي، فهو مصدر للتفسير والأخلاق والفقه وحتى التاريخ، غير أن الاستشراق وقع في مأزق معرفي عند نظره للحديث النبوي وعلومه، إذ لم يكن هناك نظير للحديث في المعرفة الغربية، لذا كان الارتباك كبيرا في فهم مكانة الحديث في تكوين العقل المسلم، ولعل هذا تسبب في تأخير معرفة الغربيين بالحديث وعلومه، فمع القرن الـ11 الهجري= الـ17 الميلادي، عرف الاستشراق الحديث النبوي، ، لكن البحث العلمي بدأ في القرن الـ13 الهجري= الـ19 الميلادي، وجاءت أولى الدراسات الحديثية أثناء تدوين سيرة النبي، ﷺ، ومن ثم بدأ اهتمام المستشرقين بالتحقيق في الموثوقية التاريخية للأحاديث.
وفي هذا الإطار يأتي صدور كتاب “الحديث في الدراسات الاستشراقية” الذي شارك فيه مجموع من المؤلفين من بينهم مستشرقين، والصادر 2023، في 430 صفحة، عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، ليقدم تصورا للموقف الاستشراقي من الحديث النبوي، وبداية الاهتمام الاستشراقي بالحديث، وأبرز المستشرقين الذين اهتموا بالدراسات الحديثية، وأهم أفكارهم ورؤاهم حول الحديث وعلومه.
الشكوكية في الإسناد
أدرك الاستشراق أنّ علم الحديث، علی الرغم من حلوله في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، إلّا أّنه يتدخّل في فروع المسائل وجزئيّاتها، وله تأثيره الكبير علی ثقافة المسلمين، وأنّ الكثير من العلوم الإسلاميّة نشأ وتطور في رحاب الحديث، وأنّ الكثير من كتب المسلمين ومصادرهم قد انتظم عقدها وتبلورت من خلال صلتها بالأحاديث والروايات المأثورة، ومن هنا فإنّ دراسة الحديث، والمصادر، والتاريخ، والمسائل المرتبطة بالروايات، دخلت ضمن أفق النشاط الفكريّ للكثير من المستشرقين.
قدم كتاب “الحديث في الدراسات الاستشراقية” عرضا لأهم أفكار المستشرقين خاصة “جولد تسيهر” و”شاخت” و”وليام ميور” و”هارولد متوسكي” حول علم الحديث، حيث طرح “جولد تسيهر” منهجا شكوكيا في إسناد الحديث النبوي، وأدت هذه المنهجية لاستبعاد غالبية الأحاديث، والزعم بأنها مزورة أو مختلقة.
فرأى “جولد تسيهر” أن هناك سببين وقفا وراء تحريف الأحاديث وتغيير مضامينها، هما:
الأول: أن النصوص الحديثية، كانت متداولة بين المسلمين، بشكل شفهي لمدة تجاوزت المائة عام، وكان الاعتماد فيها على الذاكرة، لذلك كانت النصوص عُرضة لإقحام ما ليس فيها، أو حذف بعض مضامينها، تماشيا مع رغبة البعض وأهدافهم، وهو ما يعني أن الظروف التي مر بها المجتمع المسلم أثرت على نقل الحديث وكيفية فهم الرواة للحديث بشكل لا شعوري.
الثاني: أن الصراعات السياسية والطائفية التي شهدها المجتمع المسلم، مهدت الأرضية لتحريف واختلاق الأحاديث.
ومن ثم فتح “جولد تسيهر” باب التشكيك في موثوقية الإسناد، وزعم أن نظام الإسناد مشوب بالشك، وتأسيسا على ذلك رأى كثير من المستشرقين أنه لا يمكن اعتبار الأحاديث مصدرا لمعرفة حقيقة الإسلام في حقبة ظهوره، ويمكن اعتبار الأحاديث نصوصا تاريخية.
زعم الاستشراق أن المكانة المقدسة التي يراها المسلمون لتلك الأحاديث لا تستند إلی دليل، فلم ينظر المستشرقون للحديث بوصفه قول وفعل النبيّ، ﷺ، وأنّه يحظی لذلك بالحجّيّة والقداسة؛ وإنّما اهتموا به لمجرّد احتمال أن يكون وثيقة وشاهدًا تاريخيًّا فقط، ولذلك رأى قطاعا كبيرا من الاستشراق أنّ الجزء الأعظم مما هو موجود في المصادر الإسلاميّة بوصفها من الأحاديث، لا يعدو أن يكون مجرّد مختلقات تمّ وضعها من قبل العلماء المسلمين في القرون الأولی بعد رحيل النبيّ،ﷺ.
شكك “جولد تسيهر” في علم الإسناد كمعيار لتحديد موثوقية الحديث، ورأى أن الإسناد علم فرعي للحكم على موثوقية الحديث، ثم تتابع المستشرقون في تضخيم شكوكه؛ وسعى مستشرقين لترسيخ فكرة أن احتمال انتساب أي حديث معين بشكل موثوق إلى النبي-ﷺ- يقترب من الصفر، لكن جاء من الحقل الاستشراقي، نفسه، من ينقد الكثير من مقولات “جولد تسيهر”، مثل المستشرق “هارولد متوسكي” الذي أكد أن مناهج “جولد تسيهر” للتأريخ غير دقيقة، وأن شكه يعاني من الافراط في التعميم.
وأكد “متوسكي” أنه يمكن للمناهج الصارمة أن تُثبت بشكل معقول أن عناصر محددة من الحديث تعود إلى ثقات من أوائل القرن الثاني الهجري أو أواخر القرن الأول، كما تجاهل بعض كبار المستشرقين مثل “مونتغمري واط” لشكوكية “جولد تسيهر”، ورأى آخرون أن اعتماد تلك الشكوكية لن يُمكن من ملء صفحات كتاب واحد عن سيرة النبي، ﷺ، ومن ثم كانت الانتقادات لـ”جولد تسيهر” كثيرة في الحقل الاستشراقي، وهنا يؤكد المؤرخ التركي الشهير “فؤاد سيزكين” أن الإسناد كمعلومات تاريخية ليست موضع إشكال كبير.
يؤكد كتاب “الحديث في الدراسات الاستشراقية” أنه حتى العام 1970 م، كان المستشرقون ينظرون إلی إسناد الروايات بشك وتردُّد شديدين، ولم يُعدوها مرجعًا ومصدرا للمعلومات التاريخية؛ إلاَّ أنَّ هذا لا يعني أنَّهم كانوا يرون أنَّ الاسنادات كانت مزوَّرة، ومن وجهة نظر الكثير من المستشرقين أنه “لا يدل وجود الرواية المنسوبة للنبي في أحد الجوامع الحديثية كالبخاري أو مسلم، على الوجاهة التاريخية والاعتبار التاريخي لهذه النسبة” ولهذا عمد المستشرقون إلى استخدام مناهج متنوعة لتقديم شواهد على تاريخية أو عدم تاريخية نسبة هذه الأحاديث إلى النبي أو موثوقيتها.
النقد من الداخل
يعد “ألويس شبرنجر” أول مستشرق يتناول الحديث علميا، وقد رفض منهجية علماء الحديث المسلمين في نقد الروايات، ورأى أن التزوير كان مترسخا منذ زمن الصحابة، ورغم ذلك أكد أن “السُنة تحوي حقائق أكثر من الافتراءات”، وادعى أن الدس والتزوير في الحديث كان كبيرا.
، وهو منهج أثر في المدرسة الاستشراقية بصورة واسعة، ومن أبرز هؤلاء المستشرقين “”وليام ميور”، الذي أكد أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد المنيع حول سيرة محمد، ﷺ، وقال :” لدينا هنا مخزنٌ يحوي كلمات محمد نفسه التي دُوِّنتْ خلال حياته، وتمتدُّ علی المسار الكامل لوظيفته العامة، وتُظهرُ آراءه الدينية وأفعاله الاجتماعية وشخصيته العائلية”، ورغم ذلك أكد أن الأحاديث مليئة بالتحريفات، ومن ثم فإن قيمتها مشبوهة كمصدر للتاريخ الإسلامي المبكر، لكنه كان يعتمد منهجا انتقائيا في التسليم بصحة الأحاديث، كما اعتمد أساليب في نقد نص الحديث تبدو سطحية، وكان يرى أن عملية نقد الحديث من خارجه، أي من الأسانيد والرواه، يجب أن تتراجع لصالح نقد متن الحديث نفسه
أما المستشرق “جوزيف شاخت” فتعامل مع الحديث كجزء من مشروعه في إعادة بناء الشريعة الإسلامية، نظرا لأن الحديث يملك صلة مباشرة بالحكم والنقاش الشرعي
ويلاحظ أن “شبرنجر” و”ميور” تجاهلا بشكل كبير الإسناد كمعيار لموثوقية الحديث وركزا على المتن، واستعارا مناهج نقد النصوص من حقول أخرى من التحقيق التاريخي بهدف وضع معايير لموثوقية الحديث .