لا يمكن البتّة مقارنة الحريات في العهد النبوي بمثيلاتها في الدولة البيزنطية أو الفارسية القائمة على الاستبداد  الاستبدادي للقياصرة والأكاسرة. أما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم  فقد كانت المدينة فاضلة تشيع فيها الشورى والحوار والنقد والمراجعة من كل المسلمين حتى المستضعفين منهم، لأن الكل يستظل بمبدأ المساواة القرآنية القاضية بتساوي الناس في الخلقة والمنشأ أولا، ثم تساوي المسلمين فيما بينهم في الذمة، كما في الحديث: “المسلمون تتكافؤ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم”[أبو داود، كتاب الحدود، 2751].

فالمساواة شاملة للناس جميعا رجالا ونساء ، علماء أو جاهلين في التكاليف الشرعية، وفي التقاضي، وفي أخذ الحقوق، أو في تولي الوظائف بشروطها.

ويكفي في تقرير هذا الأصل قوله تعالى: ﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ [النحل، 97]. وكذا قوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: ” أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لأدم وادم من تراب، أكرمكم عند الله اتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا أحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى.

وتطبيق الحريات في العهد النبوي كان واضحا في انتفاء الطبقية أو العصبية المقيتة بين أبناء الدار الواحدة التي شملت الأنصاري والمهاجري، وسائر قبائل العرب، بل والمسلمين من الشعوب الأخرى.

لقد تجلت الحريات في ميادين عديدة كالشورى والمراجعة والنقد البنّاء، ولم تكن هناك مصادرة للآراء، حتى المنافقون الذين شكلوا معارضة خفية وعلنية عوملوا معاملة السواء مع المسلمين، إلا الذين زلّت بهم أقدامهم إلى جرائر لا تقبلها الشريعة ولا النظام العام. وقد تجلت الحرية في حقلين مهمين هما:

أولا: حرية الاجتماع والشورى

وهذه الحرية كانت مكفولة، وعبرت عنها إقامة الجمعة والجماعات في الشعائر، حيث ندب الإسلام إلى الجماعة وعمارة المساجد، وبديهي أن تلك الاجتماعات المتتالية خمسة مرات في اليوم تثمر نقاشات آنية في أحوال الجماعة المسلمة.

كان بالمدينة نوادي مختلفة وأسواق متعددة، وتتحدث كتب السيرة عن تجمعات للمنافقين المعارضين للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن ممنوعة إلا حيث وصلت إلى إنشاء مؤسسات موازية مثل مسجد الضرار في العام التاسع للهجرة، حيث هُدم هذا المسجد لأنه كان بؤرة للفتنة وهزّ النظام العام للدولة المسلمة.

تميزت دولة المدينة بترسيخ نظام الشورى والتداول في القضايا العامة، تطبيقا للمبدأ القرآني الذام للتفرد بالرأي والاستبداد بالمشورة، ففي التعليق على غزوة أحد التي انهزم فيها المسلمون بعد أن نزل النبي صلى الله عليه وسلم لرأي الأغلبية القاضي بالخروج من المدينة لقتال المشركين، وعلى الرغم من الهزيمة القاسية جاء الأمر القرآني باستمرار الشورى ولو في أحلك الظروف، وذلك في قوله تعالى: ﴿فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين﴾[آل عمران، 159]

ولا خفاء في أن الصحابة كانوا ممتثلين للتوجيه القرآني القاضي بوجوبية الشورى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾[الشورى، 38]، وقدوتهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول لأبي بكر وعمر:”لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما[أحمد، 18023].

وهو ذاته عليه السلام نزل لرأي الحباب بن المنذر في تغيير الموقع الحربي في غزوة بدر، وفي غزوة الخندق أراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة، واستشار سعد بن عبادة وسعد بن معاد سيدا الأوس والخزرج فرفضا ذلك فنزل على حكمهما.

كل ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس عباءة الملوك الظلمة، ولكنه كان القمر المتوهج بالتواضع والاستماع لكل الآراء، حتى إن المنافقين عابوه بذلك التواضع فيما حكاه القران عنهم في قول الله تعالى: ﴿ ومنهم الذين يؤدون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾[التوبة، 61].

ثانيا: حرية النقد والمراجعة

وهي مسألة كفلها الاسلام في النصوص الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل قوله تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة  يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾[آل عمران، 104]

وكذا النصوص الآمرة والنادبة للنصيحة، وهي في جوهرها المراجعة لكل ما يراه الإنسان خطأ، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:”الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.” [مسلم، كتاب الإيمان، 55]، وحديث جرير :”بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة و النصح لكل مسلم “[البخاري، كتاب المواقيت، 524]

ولذلك شاعت المراجعة والنقد للتصرفات الخاصة والعامة، وحتى للتدابير الإدارية. وأمثلة ذلك عديدة سواء من المؤمنين الصادقين، أو المنافقين المتربصين، ففي صلح الحديبية الذي أمضاه النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في السنة السادسة للهجرة عارضه عمر بن الخطاب  بشدة وقال قولته:” والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت يا رسول الله: ألست نبي الله حقا، ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل، فعلام نعطي الدنيّة في دينا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا”[زاد المعاد، ج 3 ص 58]

وعندما أمّر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على الجيش الذاهب لغزو الشام، وكان صغيرا لم يجاوز السابعة عشر من عمره، تكلم الناس في هذه الإمارة وعابوها، وبلغ النبيصلى الله عليه وسلم كلامهم ونقدهم فقال:”إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله أن كان خليقا بالإمارة.”[البخاري، كتاب المغازي، 4469]

وكذا في نقد الأنصار لسياسة توزيع غنائم  حنين بعد غزوة أوطاس عندما كثرت القالة فيهم، فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وطيّب خواطرهم.

ولما كان قضية النقد والمراجعة شائعة غير منكرة، فربما اشتط البعض فيها كان توجيه القرآن ينزل للقصد في استعمال هذه الحريات في العهد النبوي، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿واعلموا إن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنّتم﴾[الحجرات، 7]

أما النقد الإجرائي من المنافقين المناوئين للنبي فلم يكن بالخفي، وكان من الكثرة بمكان، حتى أن القرآن نزل مهدّدا لهم حيال المسّ بحرمة الجماعة المسلمة وأمن الدولة الناشئة في قوله تعالى: ﴿لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا﴾[الأحزاب، 60].

ومن أمثلة ذلك النقد ما كان يلوح به عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين من استماع النبي صلى الله عليه وسلم للأحداث والشباب غداة المسير إلى أحد، مما جعله يعود بثلث الجيش إلى المدينة، مما يدل على توسع دائرة المعارضة في المدينة.

تلك المعارضة التي لم تخبو، وتكررت مؤامراتها التي جرت منها باللسان والحال، ونزلت بسبب ذلك آيات وسور كثيرة مثل سورة الأحزاب والحشر والمنافقون، وأخيرا سورة التوبة في العام التاسع تعليقا على تصرفات المنافقين، في قوله تعالى في مواضع عديدة شرّحت وضعية الجميع بقوله تعالى: ﴿ومنهم﴾، وأكدت حضور هذا النفاق في أوساط عديدة في قوله تعالى: ﴿وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم  نحن نعلمهم﴾[التوبة، 101]

ولم يسلم المسلمون الجدد من الأعراب الوافدين من رفع عقيرتهم بنقد الإجراءات الإدارية والمالية للدولة، في وقائع عديدة قابلها النبيصلى الله عليه وسلم بالسكوت والإغفاء والإرضاء.

ففي واقعة تقسيم غنائم هوازن جاء أعرابي يسمى ذا الخويصرة التميمي فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: “يا محمد اعدل فانك لم تعدل”،فقال صلى الله عليه وسلم: ” ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟. فقال عمر بن الخطاب :”دعني أضرب عنقه، فلم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم[البخاري، كتاب استتابة المحاربين، 6933]

ونظير هذا من كان ينتقد الإجراءات المالية، وهم من نزل فيهم قول الله تعالى: ﴿ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منهم إذا هم يسخطون﴾[التوبة، 58]

وصنف أخر كان ينتقد الأحكام القضائية، وفيهم نزل قول الله تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ [النساء، 65]

كل هذه الوقائع العديدة تدل بما لا يدع مقالا للشك في واقعية الحريات في العهد النبوي واتساع ساحة النقد والمراجعة، تلك الواقعية التي تركت بصماتها في عهد الخلفاء الراشدين بدء بمؤتمر السقيفة وانتهاء بالفتنة. وهي تجارب جديرة بالمراجعة لمزيد الإفادة منها في حياتنا المعاصرة.