يتعامل الوحي مع ثلاثة أنواع من الحقائق تصطبغ بصبغة الموضوعية والمادية المحسوسة سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة : فهو أولًا: يتعامل مع (حقيقة “الإله“)، ورغم كونها حقيقة متفردة في ذاتها ومجردة في الذهن إلا أن الوحي وضع شرطين موضوعيين للتعامل معها. الأول: يتعلق بكنهها وتصورها: وهنا يضع حدًا معرفيًا للعقل الإنساني الذي لا يفيده – في حياته الوضعية – معرفة الكنه ولكنه يُقدم له قاعدة معرفية اعتقادية تجنبه تيه التصور، وهذه القاعدة هي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ،{لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} لينهي أمر البحث والتفكر في الذات الإلهية والذي لا يفيد شيء في حركة الإنسان المادية ونشاطه العمراني. والثاني: يتعلق بالحفز المعرفي الإيماني نحو إدراك الآثار الموضوعية لحقيقة الإلوهية {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} فالبحث الموضوعي والوضعي هو الذي يهم الإنسان في حركته ونشاطه لمعرفة حقيقة الألوهية وهو ما يمكن للإنسان إدراكه ومعرفته والوعي به من خلال الأدوات التي مكَّن الله له بها: العقل ووسائله والعلم وأدواته والرغبة في البحث والسير والاكتشاف.

أما التصورات الذهنية عن هذه الحقيقة، فمقرها “الوجدان” ولا تحتاج إلى تشخيصات وتجسيدات، ويكفيها يقين من خلال العقل بأن هناك خالق له كل صفات الكمال والقدرة لهذا الكون، وهذا اليقين ناتج عن المنهج التجريبي الذي يمارسه الإنسان بالبحث والنظر في آثار الألوهية ومعطيات تلك الفكرة في الكون المادي المنظور. وهي في نهج الوحي تبدأ من الخارج إلى الداخل فالإنسان يؤمن ويعتقد في وجود من يرى آثاره كما يؤمن ويعتقد فيمن يشاهده.

أما الحقيقة الثانية فهي (الحقيقة الكونية) الماثلة أمام الحواس، ويدفع الوحي الإنسان للتعامل مع كل معطيات هذه الحقيقة الكونية بكل الجوانب الموضوعية والوضعية {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:85] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:89]  ، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:92].  فالعقل والحواس مصدرا المعرفة في هذه الحقيقة، والبحث العلمي الموضوعي هو الوسيلة والأداة في التعامل، والنتائج التي يمكن قياسها والتحقق من صحتها هي الكفيلة بتحقيق غاية التعامل مع هذه الحقيقة الكونية من المنظور التوحيدي.

ومن هنا جاءت محددات تلك الحقيقة: – السماء – الأرض – الطين – المكان بأشكاله وتنوعاته – الصباح – الماء- الهواء- الشمس- المساء- المصانع- القمر- الزروع – التجارة- الكواكب- الأمطار- البحار- الحديد- السفن، والزمان بكافة صورة: اليوم – الشهر – السنة –الحاضر – الماضي- المستقبل -)..والزمن (الوقت) هو المجال الذي تتحقق فيه هذه الحقيقة الموضوعية، وكل ما يتعلق بأية حقيقة موضوعية في هذا الكون الفسيح. كما أن المادة (الجسد) هي المكان الذي تتمظهر فيه الروح، وكذلك فإن الواقع هو مجال تطبيق الوحي (معاييره، أحكامه، تكليفاته).

إن الوحي يؤكد على حقيقة الكون الثابتة التي لا مجال لإنكارها أو التنكر لها، فنحن لا نعيش في خيال أو وهم مستيقظ منه أو لا نستيقظ، تلك الحقيقة الكونية حقيقةٌ موضوعية في مكوناتها الوضعية وفي التعامل معها. فهذا الكون – في المنظور التوحيدي- له إمكانية الإدراك كاملة، والتطويع الكامل لإتاحة هذا الإدراك للإنسان، والقابلية للتشكل والتغير وفق ما تقتضيه طبيعته من ناحية، وقدرة الإنسان على تطوير أدوات التعامل معه واكتشاف سننه وقوانينه في الأرض والسماء { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]

أما الحقيقة الموضوعية الثالثة: فهي الحقيقة الإنسانية بكل ما تتميز به من نسبية وتغير وقدرة على التكيف حسب تغير الأوضاع الزمانية والمكانية . هذه الحقيقة الإنسانية المتقلبة المزاج! بين الخير والشر وبين الحب والكره والشقاء والسعادة كما في طبيعتها ممتزجة من الروح والطين. ويتعامل الوحي مع هذه الحقيقة الإنسانية بمنتهى الموضوعية والوضعية في وصف حقائقه التكوينية والنفسية والاجتماعية من خلال الواقع المادي له:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ،  ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ}[المؤمنون:13-15].

{إنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ،إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:19-21].

{لا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49].

– {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ}[ العلق:6].

  وجوهر الحقيقة الإنسانية هي الحرية التي تنشأ عن العقل والإرادة أخص خصائص الإنسان، وما ترتب عليها من مسؤولية اكتشاف الكون وهي التي دفعت الإنسان إلى السير والاكتشاف بلا رهبة ولا قيد، في ضوء تحمله مسؤولية التاريخ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدّثر : 38]، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور : 21].

إن الوحي لم يضع أي قيد للإنسان في حركته ونشاطه، وكل ما أحاطه به جملة من القواعد لاهتداء السير، بحيث تكون تلك الحركة نافعة له فردًا وجماعة، والنفع متصل بكل أجياله، وهذه القواعد توصل لها بعد عناء التجربة وأقرها في مواثيقه، وأهم تلك القواعد الهادية هي: المساواة المطلقة [النساء : 1]،قداسة الحياة الإنسانية [ المائدة:32]،نبذ الفساد [الأعراف :74/ 85]، العدل: [النحل : 90]، التواصي الأخلاقي [النحل : 90].

هذه جملة من المبادئ المعيارية الضابطة لحركة وتفاعل الإنسان في الواقع الوضعي، وقد أقرتها بعد عناء وتضحيات كبيرة دفعها البشر في الحروب والاقتتال مؤسسات دولية تحت عنوان (حقوق الإنسان)، رغم أنها تمثل في النهج التوحيدي أكثر من مجرد حق، فهي ضرورة وجودية للإنسان، كل الإنسان والتفريط في أي منهما أو ما ينتج عنها هو إهدار لوجود الإنسان كل الإنسان.