يكفي أن تضع كلمة “حجاب” على محركات البحث حتى تظهر عشرات الكتب بمختلف اللغات حول الموضوع، فقضية الحجاب شديدة السخونة والجدل عربيا وعالميا، وليست قضية هامشية، كما أنها قضية جدل ديني وثقافي وسياسي واجتماعي نشب منذ أكثر من مائة عام ومازال ملفا مفتوحا لا يزيده الزمن إلا جدلا واشتعالا…
وفي هذا الإطار يأتي كتاب “روح الحجاب” ضمن ثلاثية الفيلسوف المغربي الدكتور “طه عبد الرحمن” “دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني” لينقل الجدل إلى جانب جديد وهو المجال الفلسفي، فالحجاب ليس قطعة قماش تستر الجسد، ولكن معانيه أكثر عمقا، لذا لم ينشغل الكتاب بالجانب التشريعي في الحجاب، ولكنه انغمس في موقع الحجاب في العلاقة بين الإنسان وربه، ودلالاته الاعتقادية والروحية التي تذكر الإنسان بميثاقه القديم مع خالقه سبحانه وتعالى، القائم على الحياء، لذا أقام الكتاب جدلا مع الاعتراضات العلمانية على الحجاب اجتماعيا وسياسيا واعتقاديا وجنسيا.
ولعل أول ما يقف عنده القارئ في قضية الحجاب أن الإنسان الأول (آدم وحواء) ارتدى اللباس أول ما ارتداه ليس اتقاء للعوارض الطبيعية أو وقاية لنفسه من البرد والشمس، وإنما كان السبب هو ستر العورة، فالملبس اتخذ منذ اللحظة الأولى للإنسان على الأرض كموقف حيائي، ومن هنا فالأصل في الحجاب هو الحياء، ويصبح اختصاص المرأة بالحجاب امتياز لها يرفع منزلتها الإنسانية..
والكتاب هـز فلسفي عنيف للرؤية الاستكبارية لمنتقدي الحجاب، وتأكيد أنهم أسرى لذواتهم المحجوبة عن ادارك الحقائق والملكوت، والعاجزة عن فهم الحالة الائتمانية التي يمثلها الحجاب، لذا لم ينشغل الكتاب بـ”فقه الحجاب” بمعناه التشريعي، لكنه انشغل بالحجاب مفهوما واستعمالا، فتعرض الحجاب لهجمة شرسة يستوجب ضرورة توسيع دائرة النظر بعدما بات التحضر المعاصر متوحشا في التعامل مع الدين وأهله، وبات يطعن في الحجاب طعنا متنوعا ونافذا، واصفا الحجاب بأنه إرغام واستعباد، وتعمية وإغراء وغواية، بل وانحراف ومثير للشهوات وأنه لا ينتمي إلى الدين، ومن ثم تصبح إجابة الدين الفلسفية على تلك الطعون واجبا وضرورة، ويحتاج المسلم المعاصر إلى الاستدلال الفلسفي بجانب الدليل الشرعي.
وفي خمسة أبواب قسم “طـه عبد الرحمن” استدلاله الفلسفي والعقلي في مسألة الحجاب لينتهي أن الحجاب حالة ائتمانية وشهودية كبرى تصنعها المرأة المتحجبة، فالحجاب هو نوع من التخلق المتعدي نفعه إلى الغير، فهو لباس منفعة يتوجب على المجتمع إعانة المتحجبة عليه وليس إعاقتها فيه.
الحجاب والظهور من طريق الاستدلال والجدل
لماذا كل هذا الهجوم الطاغي على الحجاب في الوقت الراهن؟
الحقيقة أنه عندما يكون التدين حبيس القلوب والبيوت فإن أعدائه يختفون، أما إذا انتقل التدين إلى الفضاء العام فإنه يثير العداوات بقدر حضوره، وهو ما جرى بالضبط مع الحجاب، فتم إلصاقه بالنقائص، ومنها القول بأن الحجاب ينزع هوية المرأة وكينونتها، ويحولها إلى نكرة مجهولة، وأن الحجاب يضر بالنظام العام لأنه لبس هوية، وتحدِ للعالم وإيذاء للآخرين، وبالتالي دخل الهجوم على الحجاب مجال الصراع الثقافي
يؤكد “طه” أن حقيقة الحجاب لا تطيقها المادية، فهو يصطدم مع إحدى قيم الحياة المعاصرة وهي “روح الظهور” الطاغية، وهو ما يجعل صدام تلك الحضارة مع الحجاب صداما عميقا وعنيفا ومتعدد الأدوات والحجج، فالحضارة الغربية متناقضة للغاية في مسألة الحجاب، فهي تحتفي بالوشم الذي يغرز في جلد الإنسان فيستر معالمه ويحجبها، ويصبح جزءا من الإنسان لا يمكن نزعه، في حين تضييق بالحجاب الذي يلف الجلد وهو منفصل عن الجسم، والمسلمة المتحجبة لا تطالب بأكثر من حقها في التدين، كما يمارس الآخرون التكشف، وحرمانها من حق التحجب إخلال بمبدأ المساواة، كما أن “ثورة الجنس” التي خلقتها الصورة لا تواجه إلا بـ”ثورة الحجاب”.
الحجاب والاعتقاد
المرأة المسلمة مجبرة على التحجب، مقولة يروجها العلمانيون، وبالتالي يصبح الحجاب-وفق رؤيتهم- علاقة خارجية وليس رابطا روحيا يصل المسلمة بربها ترتديه بإرادتها الحرة، فالتزام المسلمة بحجابها هو أمر ملكوتي يمكنها من العروج في عالم المعنى، والحجاب خروج من ظلمات العورة والتكشف والنظرة المسمومة إلى نور الستر والحياء، لذا فالحجاب لحظة تحرر من الاسترقاق للشهوات، والكرامة معنى مخفي في الحجاب.
وخطأ العلمانية هو إصرارها على المساواة بين الرجل والمرأة، فتلك المساواة تقضي بأن تكون أخلاق الرجل وسلوكياته هي المعيار، وهو ما يحرم المرأة من حق الاختلاف ويضر بأخلاقها، أما الرؤية الإسلامية فإن للمرأة أخلاقها المستقلة ولباسها المستقل وعالمها المستقل بما يحفظ خصائصها وخصالها، والموقف العلماني من الحجاب يعود إلى حالة الرهاب من الإسلام، ذلك الخوف المرضي الذي جعل الغرب يفعل مثلما فعلت الجاهلية الأولى عندما وضعت أصابعها في آذانها حتى لا تسمع كلمة السماء، فالعلمانية تضيق بمفهوم “الهوية” وتقصره على الهوية الوطنية داخل الدولة.
وترى العلمانية في الجسد أنه ملكية لصحابه، أما الرؤية الدينية فترى أن الجسد أمانة وائتمان وليس علاقة امتلاك، لذا فالحجاب ليس رداءا تلتحف به المرأة وفقط، ولكن لباس تحيطه جملة من القيم الأخلاقية ترتبط بحياة المرأة بدءا بالحياء وانتهاء بالاستقامة، لذا يصبح الحجاب لحظة ارتقاء وتحول أخلاقي في حياة المرأة، والحجاب لا يبني ذاتا مغلقة، ولكن المتحجبة تستحضر الآخر بموجب اعتقادها أن إيمانها يتطلب أن يتعداها إلى الحفاظ على الآخر وتذكيره بإيمانه وعدم إثارة غرائزه بما يمكنه من تحقيق الاستقامة، ونزعة العلماني إلى التفريق بين جوانب الحياة الإنسانية يتناقض مع الرؤية الدينية للمحجبة القائمة على التكامل بين المعنى والمبنى، بين الجسد والروح، بين الدين والسلوك.
الحجاب والإعماء
يرى خصوم الحجاب أن المسلم يختزل وجود المرأة في المتعة الجنسية، وهو ما يجعله يحجب المرأة، فالمرأة تراوح بين العورة والفتنة، حاملين العورة على أنها “الأعضاء الجنسية” والفتنة على معيار الفساد الأخلاقي والإغواء، وبالتالي-وفق هذا التصور- فالحجاب يُعمي على الجسد.
والفرضية المنطقية أن احتجاب الحقيقة عن الإنسان لا يعني أن عين الإنسان مصابة بالعمى، فالحجاب يخلق حالة إبصار فهو يستر ما يجب ستره، وينبه الناظر بأن هذا الستر لا ينتهك، ومن ثم فهو يحفظ إنسانية الإنسان (ذكرا أو أنثى) ويحفظ ائتمانية الإنسان على ميثاقه القديم مع ربه، وتصبح الإبليسية هي التي تُعمي الإنسان إعماء مطلقا وليس الحجاب، ويصبح الحجاب لحظة إبصار للمرأة لنفسها، وإبصار للناظر إليها بحقيقة الإيمان والميثاق القديم.
الحجاب والإغواء
يرى خصوم الحجاب أن الحجاب يكشف من حيث يريد أن يستر مفاتن المرأة ويحرك الغرائز ويثير الشهوات والإغواء، وهو قول مردود، فابتلاء المتحجبة مع حجابها الظاهر يعود إلى حجابها الباطن، فانتشار التكشف يأبي أن يرى الحجاب في فضاءاته المختلفة بارزا ومتحركا ومتفاعلا، فالإنسان المعاصر لا يرى التكشف المنتشر في كل مكان ولكنه يرى التحجب مقتحما نظره ونافذا إلى باطنه فيذكره بما لا يريد أن يتذكره، كما أن التحجب يضاد انتشار التسليع للأجساد والبضائع في الحضارة الغربية المعاصرة.
ولا شك أن التسليع يهدر مبدأ الكرامة في المجتمعات، فهناك أشياء خارج نطاق البيع والشراء، أشياء تأبي أن تكون سلعة معروضة أو مكشوفة أو يجرى المساومة عليها، وربما الحجاب الذي يعزز كرامة المرأة وإنسانيتها أحد هذه الأشياء الخارجة عن منطق التسليع الذي ينتزع من الأفراد أرواحهم، أضف إلى ذلك أن النظر دائما يتفحص المعروضات أمامه قبل شرائها، وفي حالة الحجاب فإن النظر يُحرم شهوته في تفحص الجسد، وربما هذا ما يثير الحنق المعاصر على الحجاب، لأنه يلفت النظر إلى ما وراء الحجاب إلى الروح والقيمة المستترة بل والناطقة بالحياء الداخلي والمظهري.
ومن هنا يصبح الحجاب علاقة ائتمانية تصل عالم الملك بعالم الملكوت، فالنظر إلى المرأة المتحجبة يُستحضر معه نظر الخالق البصير سبحانه –إلى ذلك الإنسان فيتسربل بالحياء ويستحضر ميثاقه القديم مع ربه، وبالتالي يصبح الحجاب حالة “شهود” يستلزم إدراكها بالبصيرة النافذة، بل بالروح البصيرة، فالحجاب يبدي من باطن المعاني ما يخفيه من ظاهر الأجساد، فهو لباس ملكوتي ينبه الإنسان إلى الناظر الأعلى والخالق البصير سبحانه وتعالى، فيخرج المرأة من أن تكون محل شهوة إلى أن تكون زينتها الأوصاف الملكوتية، فيتحطم المفهوم الوثني للجمال الأنثوي القائم على الغواية والإغراء بالأعضاء وتضاريسها، بل إن الحجاب يأخذ الإنسان من حسية الجمال إلى روحانية الجميل سبحانه وتعالى.
الحجاب والفقد
بالغ بعض المستغربين والمستشرقين في نقدهم للمتحجبة زاعمين أن الحجاب له أسباب نفسية عميقة تعود إلى افتضاض بكارة المرأة، وكأنها تسترجع بكارتها عندما تخلع حجابها أمام زوجها فتستعيد في عملية لا شعورية فض بكارتها لأول مرة..وهو قول سخيف وباطل لا يرى أنصاره في الحياة إلا نوعا من الجنس الرخيص والشهوة الهائجة مستبدلين العقل كأداة للتفكير بالأعضاء التناسلية كأدوات استدلال.
والقرآن الكريم في تناوله للعلاقة الجنسية بين الرجل وزوجته، جعل المرأة لباسا للرجل، والرجل لباسا للمرأة، أي أن العلاقة بينهما علاقة ستر وحفظ وليس علاقة أجساد عارية، فالجانب الملكوتي لا يغادر هذه العلاقة التي يرتوي فيها كل طرف من الآخر حتى وإن كانا منزوعي الملابس إذ بينهما لباس عظيم وميثاق غليظ لذا قال تعالى:”هن لباس لكم وأنتم لباس لهن”، وهو ما ينقل العلاقة الجنسية من رتبة الحيوانية البهيمية الإشباعية إلى رتبة العلاقة الإنسانية المحملة بالإشارات والمعاني والدلالات، وتصبح العلاقة بينهما علاقة إحصان متبادل وليس علاقة شهوة تنتهي مع إفراغها وزوالها، لتصبح تلك العلاقة “آية” كما تحدث عنها القرآن الكريم فتنقلها إلى عالم الملكوت بحيائه وجماله، ومن هنا فأخلاق الحجاب أخلاق ائتمانية، والحجاب هو أخلاق ولباس، والحجاب أفضل نموذج للباس المادي.