هل يمكن أن يكون الخلود حقيقة علمية قابلة للتحقق؟ مع تسارع التطور التقني، تتجه الأبحاث المستقبلية لتحدي المسلّمات التي طالما شكلت أساس الفكر البشري. من العلماء مثل راي كورزويل وأوبري دي غري، الذين يتوقعون تجاوز قيود الجسد البشري، إلى شينيا ياماناكا وديفيد سينكلير الذين يسعون لعكس الشيخوخة عبر الأبحاث البيولوجية؛ يظهر السؤال الأكبر: هل يمكن للإنسان أن يحقق ما كان يومًا مستحيلًا؟
استكشاف هذه الأفكار لا يتعلق فقط بالعلم، بل يحمل وعودًا بتحولات جذرية في مفاهيم الحياة، الزمن، والموت. تصور عالمًا لا ترتبط فيه الأعمار بالمحدودية التقليدية، حيث تتحول الأمراض المزمنة إلى ذكريات، ويصبح الإنسان سيد تطوره.
البروفيسور وليد عبد الحي أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الدراسات المستقبلية يبحث في هذا الموضوع من خلال القراءة والاستكشاف والتساؤل: ما هي المسلّمات التي تعيقنا عن استشراف مستقبلنا؟ وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تعيد تعريف حدود الممكن؟ وكيف يمكن الاستعداد لمواجهة تحديات الحاضر بأفق علمي مفتوح. وفيما يلي مقال الدكتور وليد عبد الحي:
تحدي المُسلَّمات ومستقبل التطور
نظرًا لتحيزي لفكرة اعتبار التطور التقني بمعناه الواسع (الآلة ومناهج التفكير) هو المحرك المركزي للمجتمعات البشرية المعاصرة، أعمل الآن على دراسة واسعة حول “تحدي المُسلَّمات ومستقبل التطور”، وأرهقني بشكل خاص ذهاب كبار العلماء إلى “المسلَّمات الدينية والآيديولوجية والمنظومات المعرفية بدلالاتها الواسعة” والعمل على تحدي جوهر هذه الجوانب.
ورغم الكم الهائل والمتزايد من العلماء في هذا المجال، فإن فكرة التغلب على الموت أو -على الأقل- إطالة الأعمار إلى مئات أو آلاف السنين، والتي يتعامل معها العالم كأحد مسلَّماته، كانت مدعاة لأن أسأل نفسي: ما الذي يجعل العلماء يذهبون في هذا الاتجاه؟ ووجدت الإجابات عند هؤلاء في عدد من الأسباب:
أ– عند الانتهاء من بحوث كهذه، ستكون النتيجة إما النجاح وهنا ستكون ثورة إنسانية كاملة وتحول رهيب، وإذا وصلنا إلى نتيجة فاشلة فإننا سنتعرف خلال رحلة البحث النظري في الدراسات والمراجع من ناحية، والبحث العملي في المختبرات العلمية من ناحية ثانية، على مئات النتائج التي ما كنا لنعرفها لو لم نقم بما قمنا به. وفي كلا الحالتين يحدث التطور.
ب– يقول أحد هؤلاء العلماء (وسأعود لبعضهم في هذا المقال) إن بعض النصوص الدينية المختلفة تتحدث عن بعض الأشخاص الذين عاشوا مئات السنين، فكيف حدث ذلك؟ ولماذا؟ فإذا اكتشفنا صحة تلك الروايات التراثية ازداد يقيننا بالتراث وبوجود سوابق لما نسعى لإنجازه. وإذا تبين أن مفهوم العمر مرتبط بمدلول معين كالسنة، فإن كل من كان قبل استخدام مقياس السنة أو العام (التي وضع أصولها المصريون قبل أربعة آلاف سنة) يستدعي التساؤل عما قبل هذا الاستخدام وكيف تم إسقاطه على المراحل اللاحقة لقياس الأعمار مثلًا.
ت- تناقش هذه الدراسات نزعة الفرد للخلود؛ فالحياة الآخرة هي فرضية تعني أنك لن تموت أبدًا بالمطلق (سواء في الجنة إلى الأبد أو خالدًا مخلدًا في جهنم)، وتناسخ الأرواح كنظرية أخرى تعني التمييز بين موت الروح وموت الجسد المادي، والانتقال يتم في أحد البعدين وهو الروح. بعض نظريات العلم الحديث تفسر الأمر بأنه “تحايل سيكولوجي” لنزعة باطنية لدى الإنسان برفضه الموت. فهو صراع بين “الإيروس” و”الثاناتوس” عند فرويد، والبحوث المعاصرة ستساهم في ترجيح نظرية على أخرى أو تفرض فهمًا جديدًا لبعض النصوص.
نماذج من الدراسات المستقبلية في هذا المجال
رغم قصور كفايتي العلمية في هذا المجال البيولوجي، فقد سعيت للتعرف على أبرز الأفكار والعلماء في هذا الجانب:
1- راي كورزويل (Ray Kurzweil)
يقف في طليعة هذا التيار العالم الأمريكي راي كورزويل، بخاصة في كتابه الفردانية أقرب (The Singularity Is Nearer)، وهو إعادة تنقيح لكتاب سابق له بعنوان The Singularity Is Near. يرى هذا العالم أن ثلاثة علوم تؤسس للوصول إلى أبدية الفرد (أي التخلص من الموت)، وهذه العلوم هي العلوم الجينية، النانوتكنولوجي، والروبوتات (genetics, nanotechnology, robotics).
ويعتقد كورزويل أن الآلة والإنسان في طريقهما ليكونا كائنًا واحدًا وسيتم ذلك تدريجيًا ولكن بتطور أسي (Exponential) عبر تغذية ذاتية متسارعة (accelerating returns)، أي أن كل نتيجة في الميادين الثلاثة السابقة الذكر تغذي الميدانين الآخرين. والأهم أن هذه التغذية بين هذا الثالوث ستتسارع، مما يجعل الأمر “أقرب” مما كان يعتقد كورزويل نفسه.
وأثناء الرحلة إلى الفردانية، يتنبأ كورزويل بأن “الحياة البشرية سوف تتحول بشكل لا رجعة فيه، وأن البشر سوف يتجاوزون قيود أجسادنا البيولوجية وأدمغتنا”. وهو ينظر إلى ما هو أبعد من الفردانية ليقول إن “الذكاء الذي سوف يظهر سيستمر في تمثيل الحضارة الإنسانية”. وعلاوة على ذلك، فهو يشعر بأن “الآلات المستقبلية سوف تكون شبيهة بالإنسان، حتى لو لم تكن بيولوجية”. وقد نكون عام 2045 نقف على عتبة ذلك.
2- أوبري دي غري (Aubrey de Grey)
يساند العالم البريطاني أوبري دي غري هذا التوجه، ويستخدم هذا العالم مصطلحًا مركبًا هو (Methuselarity)، ويتكون من (singularity) بالمعنى الذي أشرنا له عند كورزويل ومن (Methuselah)، (أو بالعربية متوشلح الذي يشير سفر التكوين التوراتي إلى أنه عاش 969 سنة ومات قبل أسبوع من طوفان نوح).يصر دي غري في كتابه انتهاء الشيخوخة (Ending Aging) على أن البشرية تسير نحو نقطة زمنية مستقبلية من المتوقع عندها ألا يموت الناس لأسباب مرتبطة بالعمر بعد الآن، ويعتقد أن بلوغ عمر ألف سنة أمر ليس بعيد المنال.
ويرى دي غري أن الأتمتة (أي حلول الآلة محل الإنسان تدريجيًا إلى أن يستقيل) ستؤدي إلى انقلاب في بعض مفاهيم الاقتصاد مثل الأجر، وهو ما سيقود لمنظومات معرفية جديدة إذا ترافقت الأتمتة مع فناء الشيخوخة.
3- شينيا ياماناكا وديفيد سينكلير (Shinya Yamanaka & David Sinclair)
يندرج في هذا الإطار العالم الياباني الحائز على جائزة نوبل شينيا ياماناكا، الذي يؤكد إمكانية إعادة “شباب” الخلايا الجذعية. ويسير في الاتجاه نفسه العالم البريطاني ديفيد سينكلير، الذي يعتقد أن مجموعة من الأمراض، بما في ذلك الحالات المزمنة مثل أمراض القلب وحتى الاضطرابات العصبية مثل الزهايمر، يمكن علاجها إلى حد كبير عن طريق عكس عملية الشيخوخة التي تؤدي إليها.
وحتى قبل أن يحدث ذلك، يمكن أن تكون هذه العملية أداة جديدة مهمة للباحثين الذين يدرسون هذه الأمراض. وفي معظم الحالات، يعتمد العلماء على الحيوانات الصغيرة أو الأنسجة لنمذجة أمراض الشيخوخة، التي لا تعيد إنتاج حالة الشيخوخة بدقة. بل إنهم طبقوا بعض التجارب على أنواع معينة من الديدان ونجحوا في إطالة معدل أعمارها بمعدل 40%.
التساؤلات والتداعيات
ما سبق يجعلني أتساءل عن العلاقة بين التطور وبين التحول في مسلمات المنظومات المعرفية. فإذا نجحنا في تحدي هذه المسلمات فقد دفعنا التطور قدمًا. (فمن كان يتخيل أن هناك إمكانية لإلغاء الزمن والمسافة؟ فأنت الآن تستطيع عبر Zoom أن تشارك في ندوة تبعد عنك ثلاثة آلاف كيلومتر، ويراك الحضور وتراهم، ويسمعونك وتسمعهم وكأنك في نفس المكان. بل من عاش التجربة ينسى أنه ليس مع الحضور في مكان واحد).
وإذا فشلت، فكم عدد النتائج التي اكتشفتها خلال رحلة الفشل هذه؟ فقد يكون عددها أكثر من نتائج النجاح.
لكن الجانب الآخر هو التداعيات التي تترتب على النجاح أو الفشل. تخيل للحظة لو توقفت الكهرباء، أو توقف الإنترنت، أو ألغيت وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية… سيضطرب أغلب النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهذا يعني أن المستقبل سيكون لصالح من يعمل على استحضاره والاستعداد له قبل أن يصل. فالمستقبل هو الضيف الإجباري، ولكي تُحسن استقباله قم بواجبات الضيافة له… وهذا تحدٍ جديد لمسلماتك… ربما.