قال الله تعالى: { كلا إن الإنسان ليطغىٰ * أن رآه استغنىٰ * إن إلىٰ ربك الرجعىٰ * أرأيت الذي ينهىٰ * عبدا إذا صلىٰ * أرأيت إن كان على الهدىٰ * أو أمر بالتقوىٰ * أرأيت إن كذب وتولىٰ * ألم يعلم بأن الله يرىٰ } [سورة العلق: 6-14 ].
سبب نزولها
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل نعم فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب. قال فأتى رسول الله ﷺ وهو يصلي – زعم – ليطأ على رقبته، قال فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه قال فقيل له ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله ﷺ: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا) قال: فأنزل الله عز وجل – لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه – (كلا إن الإنسان ليطغى)… الآيات. (رواه مسلم (2797).
تضمنت الآيات بالتأمل فيها مع الاعتبار بسبب النزول بيان اعتداء أبي جهل على النبي ﷺ بطريقين:
- الأول: تهديده للنبي ﷺ بأن إذا صلى عند الكعبة أن يطأ رقبته، وهذا فيه دلالة على جهله وعلوه واستكباره وجرأته على الله وعلى رسوله ﷺ.
- الثاني: عندما رأى النبي ﷺ يصلي جاء لينفذ تهديده، وهذا كفر زائد على كفره الذي هو فيه.
دفاع الله تعالى عن النبي ﷺ
جاء دفاع الله تعالى عن نبيه ﷺ بطرق عديدة:
- بالفعل: حيث أدخل الله تعالى رعبا شديدا في قلبه وذلك عندما رأى – أبو جهل – ما أخبر به قومه عندما سألوه عن سبب تراجعه عن إلقاء الحجر على ظهر النبي ﷺ قائلا: (إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة) وكان ذلك التخويف من ملائكة الله تعالى له كما أخبر ﷺ عن ذلك بقوله (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ).
- دافع الله تعالى عن نبيه ﷺ بالقول حيث أنزل آيات تبين حال أبي جهل وما هو عليه من الكبر والطغيان اللذين لا يلقيان به حيث قابل النعم بالكفران، وهذا واضح في قوله تعالى ﴿كلا إن الإنسان ليطغىٰ * أن رآه استغنىٰ * إن إلىٰ ربك الرجعىٰ﴾.
- بين الله تعالى جهل أبي جهل حيث استفهمه بقوله ﴿ أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى ﴾ [العلق: 9، 10] والمعنى هل يستحق مريد الصلاة أن ينهى عنها ويهدد؟ متى كانت الصلاة من الأعمال الفاسدة التي لا يجوز فعلها؟ أم أنه الجهل والكفر والطغيان.
- وعظه وتذكيره بأن ما يقوم به من نهي النبي ﷺ عن الصلاة لا يجوز بل هو أكبر الفجور فالنهي في حده ذاته فجور وكونه في الحرم فجور آخر وكونه نهي لنبي الله تعالى فجور يفوق كل ما سبق، وقال ابن كثير ﴿ أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى ﴾[العلق: 9، 10] نزلت في أبي جهل، لعنه الله، توعد النبي ﷺ على الصلاة عند البيت، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولا، فقال: ﴿ أرأيت إن كان على الهدى ﴾ [العلق: 11] أي: فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله، ﴿ أو أمر بالتقوى ﴾ [العلق: 12] بقوله، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته.
- ومن دفاع الله تعالى عن نبيه ﷺ ما بينه من كون هذا العدو المتجبر سيموت على كفره ولن يدخل الإسلام قبله يوما ما بل مأواه النار وبئس المصير فقال تعالى: ﴿ أرأيت إن كذب وتولىٰ * ألم يعلم بأن الله يرىٰ ﴾.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ﴿ ألم يعلم بأن الله يرى ﴾ [العلق: 14] أي: أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء.
وجاء في تفسيرها: (أي: أرأيت – أيها الرسول الكريم – إن كذب هذا الكافر بما جئته به من عندنا، وتولى وأعرض عما تدعوه إليه من إيمان وطاعة لله رب العالمين. أرأيت إن فعل ذلك، أفلا أرشده عقله إلى أن خالق هذا الكون يراه، وسيجازيه بما يستحقه من عذاب مهين؟
فالمقصود من هذه الآيات الكريمة التى تكرر فيها لفظ ” أرأيت ” ثلاث مرات: تسلية النبي ﷺ. وتعجيبه من حال هذا الإنسان الطاغي الشقي، الذي أصر على كفره. وآثر الغي على الرشد. والشرك على الإيمان.. وتهديد هذا الكافر الطاغي بسوء المصير، لأن الله -تعالى- مطلع على أعماله القبيحة.. وسيعاقبه العقاب الأكبر).
وأخيرا: هذه خمسة أمور بها دافع الله الودود الغفور عن النبي المبرور ﷺ، وصد عنه ذلك الكافر المغرور ليعلم أهل الأرض جميعا قدر النبي ﷺ عند ربه تعالى.
ومن الفوائد المهمة: أن في قوله تعالى ﴿ عبدا إذا صلىٰ ﴾ دون قوله نبيه أو رسوله (عبدا) دلالة على أنه لا يوجد أحد حقق العبودية كما حققها هو ﷺ كما أشار إليه الرازي رحمه الله تعالى بقوله (كأنه -تعالى- يقول: إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في عبوديته).
ثم ذكر الرازي فائدة أخري (أنه تفخيم لشأن النبي عليه السلام يقول: إنه مع التنكير معرف، نظيره الكناية في سورة القدر حملت على القرآن ولم يسبق له ذكر: ﴿ أسرى بعبده ﴾ [الإسراء: 1]، ﴿ أنزل على عبده ﴾ [الكهف: 1]، ﴿ وأنه لما قام عبد الله ﴾ [الجن: 19].
قوله تعالى: ﴿ كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ﴾ [سورة العلق: 15-16].
هذه الآيات تابعة في سبب نزولها إلى الآيات السابقة، فأقول ومن الله أرجو العون والقبول:
في هذه الآيات دفاع آخر عن خير البريات عليه أفضل الصلوات وأتم التسليات سوى ما تقدمه من دفاع، إذ فيها زجر شديد لأبي جهل بعد أن وعظه فيما تقدم. فلئن كان الدفاع السابق لما وقع من أبي جهل في الماضي فهذا تهديد له من أن يقع مرة أخرى مستقبلا في أذي الحبيب ﷺ. وإليك بيان معاني الآيات من أقوال أهل التفسير:
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ﴿ كلا لئن لم ينته ﴾ أي أبو جهل عن أذاك يا محمد ﷺ ﴿ لنسفعا ﴾ أي لنأخذن بالناصية فلنذلنه. وقيل: لنأخذن بناصيته يوم القيامة، وتطوى مع قدميه، ويطرح في النار، كما قال تعالى: فيؤخذ بالنواصي والأقدام. فالآية – وإن كانت في أبي جهل – فهي عظة للناس، وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة).
وقال بعضهم: وقوله- سبحانه: ﴿ كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ﴾ ردع وزجر لهذا الكافر الطاغي الناهي عن الخير، ولكل من يحاول أن يفعل فعله.
والسفع: الجذب بشدة على سبيل الإذلال والإهانة، تقول: سفعت بالشيء، إذا جذبته جذبا شديدا بحيث لا يمكنه التفلت أو الهرب… وقيل: هو الاحتراق، من قولهم: فلان سفعته النار، إذا أحرقته وغيرت وجهه وجسده. والناصية: الشعر الذي يكون في مقدمة الرأس.
أى: كلا ليس الأمر كما فعل هذا الإنسان الطاغي، ولئن لم يقلع عما هو فيه من كفر وغرور، لنقهرنه، ولنذلنه، ولنعذبنه عذابا شديدا في الدنيا والآخرة.
والتعبير بقوله تعالى: ﴿ لنسفعا بالناصية ﴾ يشعر بالأخذ الشديد، والإذلال المهين، لأنه كان من المعروف عند العرب، أنهم كانوا إذا أرادوا إذلال إنسان وعقابه، سحبوه من شعر رأسه.
قوله تعالى ﴿ فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب ﴾ [سورة العلق: 17-19].
- أولا سبب نزولها: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي ﷺ يصلي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي ﷺ فزبره فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني. فأنزل الله: ﴿ فليدع ناديه * سندع الزبانية ﴾ فقال ابن عباس: فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله). رواه الترمذي (3349) وصححه.
- ثانيا: تضمنت الآيات بالتأمل فيها مع الاعتبار بسبب النزول بيان اعتداء أبي جهل على النبي ﷺ حيث هدد بقوله (إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني).
- ثالثا: جاء دفاع الله تعالى عن نبيه ﷺ بصور عديدة:
- قوبل تهديده بتهديد أشد فقال تعالى ﴿ فليدع ناديه * سندع الزبانية ﴾ ويلاحظ أن الخطاب جاء بضمير الغيبة تجاهلا له – أعني أبا جهل – إذ لم يقل: ادع ناديك.
- بين الله تعالى أنه سيدعو الزبانية، ولفظ الزبانية في كلام العرب: يطلق على رجال الشرطة الذين يزبنون الناس، أى: يدفعونهم إلى ما يريدون دفعهم إليه بقوة وشدة وغلظة، جمع زبنية، وأصل اشتقاقه من الزبن، وهو الدفع الشديد، فكم في هذا الكلام من تخويف لهذا الجهول.
- قال في التفسير الوسيط: (والمقصود بهاتين الآيتين، التهكم بهذا الإنسان المغرور، والاستخفاف به وبكل من يستنجد به، ووعيده بأنه إن استمر في غروره ونهيه عن الصلاة فسيسلط الله – تعالى- عليه ملائكة غلاظا شدادا لا قبل له ولا لقومه بهم). وسيأتي أنه قد قتل يوم بدر.
- أمر الله تعالى نبيه النبي ﷺ بل (وحضه على المداومة على الصلاة في الكعبة، وعدم المبالاة بنهي الناهين عن ذلك، فإنهم أحقر من أن يفعلوا شيئا وذلك بقوله تعالى: ﴿ كلا لا تطعه واسجد واقترب ﴾).
- في قوله تعالى ﴿ كلا لا تطعه واسجد واقترب ﴾ أي: كلا ليس الأمر كما قال هذا المغرور من أن أهله وعشيرته سينصرونه، وسيقفون إلى جانبه في منعك أيها الرسول الكريم -من الصلاة، فإنهم وغيرهم أعجز من أن يفعلوا ذلك، وعليك- أيها الرسول الكريم- أن تمضى في طريقك وأن تواظب على أداء الصلاة في المكان الذي تختاره، ولا تطع هذا الشقي، فإنه جاهل مغرور، واسجد لربك وتقرب إليه- تعالى- بالعبادة والطاعة، وداوم على لك).
- أقر الله تعالى عين نبيه ﷺ والمؤمنين بمقتل أبي جهل يوم بدر: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ﷺ، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله -ﷺ- فأخبراه، فقال: “أيكما قتله؟” قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: “هل مسحتما سيفيكما؟” قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: “كلاكما قتله، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح” وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي عبيدة عن ابن مسعود قال: أتيت النبي -ﷺ- يوم بدر، فقلت: قتلت أبا جهل؟ قال: “آلله الذي لا إله إلا هو؟” قال: قلت: آلله الذي لا إله إلا هو، فرددها ثلاثا، قال: “الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق فأرنيه” فانطلقنا فإذا به، فقال: “هذا فرعون هذه الأمة.
يقول د. أمين بن عبدالله الشقاوي: (وتقع الأقدار العجيبة مع فرعون هذه الأمة أن يكون من الذين أسهموا بقتله غلامان من الأنصار في مقتبل الشباب حديثة أسنانهما، وعبد الله بن مسعود– رضي الله عنه – الذي كان يسميه رويعي الغنم، ولم يقتله صناديد المسلمين، حمزة أو علي، أو أبطال الأنصار سعد بن معاذ أو أبو دجانة أو سعد بن عبادة، إنما كتب الله تعالى أجله على يد الغلامين من الأنصار، وعلى يد رويعي الغنم عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -، الذي كان قصير القامة، نحيل البدن).
وختاما
نزل في موت أبي جهل لعنه الله تعالى قوله تعالى: ﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ [الدخان: 49] أي: قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ.وقال الضحاك عن ابن عباس: أي لست بعزيز ولا كريم.
وورد في كتب التفسير ما قاله الأموي في مغازيه: حدثنا أسباط، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة قال: لقي رسول الله -ﷺ- أبا جهل – لعنه الله – فقال: ” إن الله تعالى أمرني أن أقول لك: ﴿ أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى ﴾ [القيامة: 34، 35] قال: فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء. ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم. قال: فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته، وأنزل: ﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ [الدخان: 49].