التكنولوجيا ليست محايدة ثقافيا، هذا ما خلص إليه المفكر الفرنسي “جاك أيلول” في كتابه “خدعة التكنولوجيا” الذي يعد من أهم الكتب التي صدرت في مطلع القرن العشرين، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف البحث حول تأثيرات التطورات التكنولوجية على الإنسان، وفي كتاب “تغير العقل:كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا” للكاتبة البريطانية “سوزان غرينفيلد” نقرأ إشكالات وقضايا ترتبط بحياة الإنسان المعاصر الذي أصبح أسيرا للشاشة سواء كانت في الكمبيوتر أو الموبايل أو الفضائية، فطول الوقت الذي يقضيه الإنسان أمام تلك الشاشات وتكراره بشكل يومي بدا ينتج آثاره على الإنسان في تحولات واضحة في طريقة عمل العقل البشري وإدراكه للأمور ثم انعكاس تلك التغيرات في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية وثقافته وتطلعاته.
كتاب “تغير العقل” مكتنز للغاية بالأفكار العلمية والبحثية والمعلومات الدالة على سعة معارف الكاتبة وإحاطتها الواسعة بالموضوع، وهو ما يجعلنا نتوقف فيه عند بعض اللصيقة بمعاشنا وحياتنا والتي باتت الرقمنة تحتل فيها مكانا محوريا ومتصاعدا وهادرا، فخبرة الإنسان تشير أن أي ثورة تكنولوجية تؤدي إلى تقدم كبير، وتؤدي دائما إلى مشاكل غير متوقعة تحتاج إلى تأهب لمواجهتها.
والحقيقية المهمة أن التكنولوجيا إذا استخدمت بصورة معقولة فإن نتائجها تكون معقولة، لكن في حالة الرقمنة فإن الاعتدال غائب، وتشير الأرقام أن الفرد يستخدمها ما يقرب إحدى عشر ساعة يوميا، وهو ما يستدعي التوقف والقلق، فالعالم يشهد هوسا متصاعدا بالشاشة، فالرقمنة خطفت الحياة اليومية بأسرها وتفاصيلها، ولم يعد في استطاعة الآباء أن يمنعوا أطفالهم أو يعرفوا ما يفعلونه على الانترنت، وهؤلاء ينذرون بظهور المواطن الرقمي الذي لا يعرف شيئا عن الحياة بدون الانترنت.
ومن الحقائق التي تصدمنا في الكتاب، تغير سلوك الشخص في البيئة الافتراضية عنه في الواقع، وشعور الصغار تحديدا بأنهم أقوى وأكثر ثقة بأنفسهم في العالم الافتراضي عنه في الواقع، وهو ما جعل غرفة النوم الموجود فيها الكمبيوتر أو الموبايل الخاص بهم هي متعتهم وملاذهم وعالمهم الذي يبنونه ويستمتعون فيه، وبالتالي بات هناك انعزال مخيف داخل الأسرة الواحدة، وأصبح أفرادها والبعيدين والذين يتواصلون من خلال الانترنت أقرب إلى الدفء في العلاقة من الذي ينامون في الغرفة المجاورة لهم.
كذلك هناك شعور متنام لدى الشباب والصغار أن ما يفعلونه على الانترنت لا عواقب له، خاصة إذا أخفوا هوياتهم وأسمائهم الحقيقية، وهو ما أوجد جرأة على فعل الخطأ والمحظور دون أي شعور بالذنب أو خوف من العقوبة، بل زاد الأمر أنه أوجد تحجرا واضحا في المشاعر وتبلدا في الإحساس، فالمراهق قد يكتفي في علاقته بأبويه بوردة ينشرها على صفحته في فيسبوك، دون أن يفكر أن يرتمي في أحضانهما ويتلامس مع قلوبهما، بل إنه قد يحجب أبويه عن صفحته على فيسبوك حتى لا يعرفوا حجم التناقض بين سلوكه وما يبثه من مواد وتفاعل.
ويلاحظ وجود إدمان للشاشة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، ففي الولايات المتحدة مثلا عام 2011 اشترى (71%) من مستخدمي الانترنت البالغين سلعا من خلال التسوق الاليكتروني، كذلك تقلصت مساحة اللعب البدني للأطفال وتحول الأطفال إلى العب الاليكتروني، وغاب الهواء النقي المنعش عن رئات الصغار ليتعرضوا لمضار الشاشات النفسية والبدنية، ومن ثم صدرت تحذيرات من “تآكل الطفولة” في ظل الرقمنة، بعدما أصبحت قصص الأطفال وتكوين رؤيتهم عن محيطهم لا تأتي من تجربتهم التي تختزن في أدمغتهم ولكن تأتي من البرامج التي يشاهدونها بكثافة ولساعات طويلة.
وفي تقرير صدر 2012 عن معلمي الثانوية في الولايات المتحدة ذكر أن (87%) منهم يرى أن الرقمنة تخلق جيلا مشتت الانتباه، لأن طلابهم يقضون الوقت في تبادل الرسائل القصيرة والترفيه فيفقدون معظم طاقتهم قبل أن تُعبأ عقولهم بالمعلومات أو أعماقهم برؤية واضحة للعالم حولهم، ومن ثم تتراجع ملكات التفكير العمق والتعبير الوجداني بل والمحتوى الحقيقي الذي يبثونه، وأورد الكتاب أرقاما مهمة منها أن جزءا كبيرا من مستخدمي فيسبوك (يزيد عدد مستخدمي فيسبوك على المليار شخص) لا يبثون محتوى ولكن يضعون إعجابا فقط على ما يقرؤونه، وهو ما يعني في التحليل الأخير غياب المشاركة والتفاعل نحو كثافة التلقي الذي يشوش على التفكير.
وقد خلقت الرقمنة حالة عالية من الهوس بالذات، ويكفي أن تمشي في أحد الموالات الضخمة وتحصى الآلاف الذين يلتقطون صورة “سيلفي” لذواتهم ويبثونها في الحال على الانترنت، في محاولة للحصول على الاستحسان من الآخرين، وأثبتت دراسات عام 2013 أن عشرات الآلاف أغلقوا صفحاتهم على فيسبوك نظرا لعدم الرضا عن حياتهم وأشكالهم مقارنة بالآخرين الذين يبثون صورهم في لحظات الاستمتاع بالحياة بشكل كثيف، فالرقمنة قللت الرضا عن الحياة وفرضت على الشخص أن يقارن نفسه دائما بغيره فاختار البعض أن ينتحر في العالم الافتراضي بدلا من أن ينتحر في العالم الواقعي..
وعرض الكتاب لأزمة الكتاب الورقي في ظل الرقمنة، ففي عام 2012 تجاوزت مبيعات الكتاب الاليكتروني لأول مرة مبيعات الكتاب المطبوع في الولايات المتحدة، فالكتاب الاليكتروني ينمو بوتيرة متسارعة للغاية، ولكن هل هناك فارق فوارق في طبيعة القراءة بين القراءة الرقمية والورقية؟ تحدث كتاب “تغير العقل” عن ذلك استنادا لدراسات متعددة خلصت أن الانخفاض في الانتباه المستمر أصبح يميز مهارات القراءة والكتابة الاليكترونية التي تميل إلى التصفح والقراءة السريعة والانتقائية ولمرة واحدة بدلا القراءة المتعمقة التي صبغت القراءة الورقية، فالشاشة في القراءة تتسم بتشتت الانتباه، كما أن القراءة الورقية تمنح القارئ مزيدا من الوقت للتأمل وتغريه بالشك.
أما مسألة استبدال الكتب الرقمية بالكتب الورقية في العملية التعليمية فلم تؤد إلى نتائج مرضية، إضافة إلى أنه في ظل تصاعد الرقمنة في الجامعة فإن كثيرا من الطلبة تصل إلى النصف في بعض الجامعات الغربية، لم يعودوا يرغبون في حضور المحاضرات ويكتفون بمطالعتها على الانترنت، لكن الدراسات أثبتت أن ذلك لم يؤد إلى تحصيل جيد لأنه لا غنى عن التفاعل البشري فلا يمكن أن تحل الرقمنة محل الإنسان في كامل العملية التعليمية، والأفكار المعقدة لا يمكن تعلمها من الشاشة، فالتعليم ليس تعبئة للرأس بالمعلومات، ولكن إدراك العلاقات بين المعلومات وفهم البيئة والسياق الذي تتحرك فيه، فمع طوفان المعلومات تغيب المعرفة، وفي ظل كثافة المعرفة تختفي الحكمة، ولا شك أن الحكمة هي غاية العلم والإنسان معا، وهنا تحضرني خبرة التعليم في الحضارة الإسلامية حيث كان علمائنا لا يثقون فيمن يتلقى من الكتب مباشرة دون شيخ، فمن كانت شيوخه الكتب لم يكن عالما كاملا، لهذا كان علمائنا يأخذون الكتب بطريقة الإسناد وهو ما حل كثير من ألغازها.
ولفت كتاب “تغير العقل” الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي “أن من 20 % إلى 40% من الذكاء موروث، أي أن ما يقرب من 80% من الذكاء مكتسب، وفي ظل تحكم الشاشة في تكوين الرأي فإن العقل فعلا أمام مرحلة تغير يجب إدراكها والاستعداد لمواجهة آثارها التي تمد يديها داخل البيوت والأنفس على السواء..