بين الرقمية والموضة علاقة تأثير واضحة، حيث أثرت الرقمية في عالم الموضة، ومارست ضغطا نفسيا على مئات الملايين حول العالم، بما تفرضه من أذواق، وتحريض على الاستهلاك السريع، وربط قيمة الإنسان بما يرتديه ويستعمله، فأصبح هؤلاء الملايين خاضعين لمنطق الموضة المتغير، والذي يرى الاستهلاك غاية يقتنص من خلالها القبول الاجتماعي.
تسللت الموضة للأجيال الجديدة من خلال الطغيان الرقمي، الذي أصبح يصل إلى جميع البشر ويتفاعل معهم ويُعيد تشكيلهم، ويؤثر في سلوكهم ورؤيتهم لأنفسهم وللعالم، وتقاطعت الرقمية والموضة مع الثقافة والترفيه والتسويق والتربية والعلاقات الاجتماعية والذوق والفن، فلم تعد الموضة تقتصر على الملابس، ولكن انتقل تأثيرها لرؤية الأفراد لذواتهم ومظهرهم عبر الوسيط الرقمي.
رقمنة الموضة
علاقة الرقمية والموضة تبدو قريبة جدا، فالموضة رفيقة للحداثة، فقد فرضت زيادة الانتاج مع الثورة الصناعية ضرورة التوسع في الاستهلاك، وخلق الحاجة ثم إنتاج السلعة لتلبيتها، فكانت الموضة مدخلا لتعظيم الاستهلاك، ثم الاستهلاكية المفرطة، ثم تحول الاستهلاك ليكون غاية في ذاته، وكان التحفيز الدائم لهذه الحالة الخطر بيئيا واقتصاديا وإنسانيا، هو ملاحقة الموضة واللهاث وراء جديدها، والذي لا يحتاج إليه الإنسان في أغلب الأحيان.
في كتابها “مستهلك: الحاجة إلى التغيير الاجتماعي” [1] تناقش الباحثة “أجا باربر” Aja Barber مسألة توهم الموضة كاحتياج إنساني من خلال الترويج لفكرة أن القيمة تأتي من الشراء والاستهلاك، هذه الصرعة أوجدت نمو الاستهلاك المفرط، لكن الوجه الآخر كان الانتشار المفرط للسلع الرخيصة التي تلبي احتياجا سريعا يواكب الموضة، ثم ينتهي بسرعة ليخلي مكانه لموضة أخرى، وكانت الملابس هي الميدان الأبرز للموضة السريعة، وترى “باربر” أن القائمين على الموضة السريعة فهموا سيكولوجية المستهلكين، وأمسكوا بالخيط الوهمي المؤثر وهو أن القيمة تأتي من الشراء، وأن قيمة الإنسان تتضاءل مع تضاؤل مشترياته والأشياء التي يملكها.
ربطت “باربر” في كتابها بين هذا الاستهلاك وبين الاستعمار والاستغلال، ونظرت إلى صناعة الأزياء من المنظور الاستعماري الذي أنشأ مزارع القطن العملاقة في القارة الأمريكية، واستعبد الأفارقة لزراعتها، ورأت أن هذا النمط الاستعماري في عالم صناعة المنسوجات مازال مستمرا.
وتحدث عن شوق الملابس المستعملة المتنامي بسبب الموضة الرسيعة، وأبرزها سوق “كانتامانتو” في دولة غانا، والذي يعد من أكبر أسواق الملابس المستعملة في العالم، ويستقبل ما يقرب من (15) مليون قطعة ملابس أسبوعيا، ويعمل فيه أكثر من ثلاثين ألف بائع، ويتخلص السوق يوميا من سبعة ملايين طن من الملابس المستعملة كنفايات في النهر والصحاري، والعالم ينتج ما يعادل (50) مليار قميص سنويا، ويتجه في الغالب واحد من ثماني قمصان إلى مكبات النفايات في أفريقيا، ولعل هذه الضخامة ترجع إلى ثقافة “استهلكه وتخلص منه” أو كما كتبت “باربر”: “لقد خلق عالمنا مجتمعًا يحمل رسالة مفادها أن ارتداء نفس الشيء مرتين ليس أمرًا رائعًا”.
وفي كتابها ” الملابس المحبوبة تدوم “[2] تطرح الناشطة ومصممة الأزياء ” أورسولا دي كاسترو” Orsola de Castro خطا ثوريا مناهضا للموضة السريعة، مع خلال تطبيع العلاقة مع الملابس، والقيام باصلاحها وإعادة ارتدائها مرة ثانية، فهذا الاتجاه يقاوم الشره للموضة، وترى “أورسولا” أن تلك الفكرة ثورية، لذا قدمت في كتابها أفكار وطرقا ورسوما لكيفية التعامل مع الملابس وإصلاحها واستعمالها مرة أخرى، أما الوجه الآخر لما تطرحه، فهو تقليل النهم الانفاقي في شراء الملابس، وتدقيق الشخص فيما يشتريه ويرتديه، بحيث يكون ذا جودة تسمح باستخدامه فترة أطول ومرات كثيرة، لأن الموضة السريعة تُخلف وراءها أثرًا من الاستغلال البشري والبيئي، وهو ما يفرض العناية بالملابس المكدسة في الخزائن ا والاستفادة منها، والحقيقة نزعة الموضة وتطرفها في العالم الرقمي مزعجة استهلاكيا حتى في الغرب.
الرقمية وموضة الجسد
في كتابها “لا تشوبه شائبة: دروس في المظهر والثقافة من عاصمة الجمال الكوري”[3] تؤكد الكاتب “إليزا هو” Elise Hu علاقة الرقمية والموضة وتتحدث عن تحول المظهر الإنساني ليصبح انعكاسا للتكنولوجيا، وأن المعايير الرقمية في الجمال أصبحت مسعى لكثير من الناس خاصة الأجيال الجديدة، وبخاصة النساء، اللاتي اضطررن للخضوع قرون لنظرة الرجل لمعايير الجمال، ليحولن اهتمامهن لنظر التكنولوجيا لهن من خلال الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، وعنده تبدأ الفجوة بين المظهر الحقيقي والمظهر المصطنع، أو الذي يرغب الشخص في الوصول إليه.
الموضة انتقلت من الملبس والمقتنيات لتتحول إلى ذات الإنسان في شكله ومظهره وجسده لونا وأحجاما ومواصفات، ولعل هذه الصرعة بموضة الجسد، أنعشت سوق مستحضرات التجميل، وجراحات التجميل، خاصة مع تطبيقات الرقمية ذات الأبعاد الثلاثية في التعامل مع الصور، وكذلك برامج الفلاتر التي تعيد بناء الشكل وفق أحلام الشخص ورغباته، واتجاه الكثير لتطبيق هذه المعايير على أجسادهم وأشكالهم لتضييق الفجوة بين الصورة التي أنتجها الذكاء الاصطناعي للشخص وفق معايير الموضة الجسدية، وبين حقيقة الإنسان التي خلقه الله عليها.
ومن خلال تجربتها الإعلامية والصحفية في كوريا الجنوبية، والتي استمرت أربع سنوات، لاحظت هذا الخضوع لموضة الجسد، حيث تتفوق نسبة جراحي التجميل فيها أربعة أضعاف بالنسبة لعدد المواطنين مقارنة بالولايات المتحدة، وهو ما يعني أن ضغط الرقمية وما تنتجه من ثقافة تنظر للجسد وفق معايير محددة خاضعة للموضة والرقمية، ولاحظت “ليزا” أن هذا الضغط الخاص بموضة الجسد قد يعيق الأشخاص عن تقدمهم المهني؛ بل ويجعل هؤلاء الأفراد مهمشين.
ومن الناحية الأخرى في مسألة الرقمية والموضة نجد أن صناعة مستحضرات التجميل تطورت لتلبي تلك الموضة الجسدية، فتضاعفت الاستثمارات في صناعة التجميل، ووصلت إلى أكثر من عشرة مليارات دولار، وتم منحها اسما براقا هو “الرعاية الذاتية”، لكنها “ليزا” تشير إلى علاقة الرقمية والموضة بهذا الهوس، بعدما سهلت التكنولوجيا الرقمية لهؤلاء الأشخاص الفرصة لتحديد أنفسهم، والشكل الذي يرغبون أن يكونوا عليه، ومكنتهم من التخلص مما يرونه عيوبا في أجسادهم ومظهرهم، أما أباطرة التسويق فروجوا لأجساد خالية من العيوب، ولشباب دائم لا يعرف الشيخوخة، وهذا ما عمق ثقافة “التحسين الذاتي اللامتناهي” وترويج أن الإنسان قادر على ذلك من خلال الغذاء والجراحة ومستحضرات التجميل والرياضة.
وقد روجت ماكينة التسويق تلك الأحلام، وأنتجت مجتمعا مهووسا بالمظهر والجسد، وما يرتبط به من معايير صارمة للموضة في الجمال والشكل، وأصبح الجسد والمظهر والجمال مغذيات لماكينة الصناعة وينسجون العلائق القوية مع صرعات الموضة المتغيرة، هذا المأزق، لم يخص النساء في كوريا الجنوبية فقط، ولكن ابتلع الكثير من الرجال، تقول الإحصاءات أن 13% من منتجات العناية بالبشرة في العالم يستهلكها الرجال الكوريون.
الرقمية والموضة وعبدُ الخميصة
أما الرؤية الإيمانية في تعاملها مع الموضة، فرغم أن الإسلام يحث على التجمل والتزين، إلا أنه يرفض أن يكون المسلم خاضعا لمنطق التجمل من أجل العجب أو الكبر والتطاول على الآخرين، وفي الحديث المتفق عليه “بينما رجل يمشي في حُلة تعجبه نفسه، مرجل جمته إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة “.
ومن الناحية الأخرى فالإسلام يدعو إلى الحرية، ومن أهم أبواب الحرية، ألا تخضع النفس لشهواتها ورغائبها، فتحرير النفس من الداخل هو تحرير لواقع المسلم في الحياة، فإن كان الشخص عبدا للملابس والأزياء فقد نال التعاسة كما أشار الحديث الشريف “تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ” والخميصة والخميلة هي أنواع من الأقمشة والملبوسات، وقد دعا النبي ﷺ على هذا الخاضع بالعبودية للملابس والمظهر، بألا تخرج الشوكة من جسده إذا اخترقته.