تلعب الزكاة دورًا هامًّا في تحقيق الضمان الاجتماعي، وهي كما وصفها الكثير من العلماء مؤسسة الضمان الاجتماعي؛ حيث إنّها إلزامية ولها إيراداتها ومصارفها وقيمها المحددة([1]). ولقد نجحت الزكاة كمؤسسة مالية وتنموية وتعاونية عبر العصور الإسلامية المختلفة في تحقيق أهداف اقتصادية عديدة للاقتصاد الإسلامي، وخاصة منها الإسهام بشكل كبير في تحقيق التنمية الاقتصادية للبلدان الإسلامية.

الزكاة ومحاربة الفقر والبطالة

وعندما طُبِّق مبدأ الزكاة في العصور الإسلامية السالفة نجد أن المجتمعات الإسلامية قد نجحت في محاربة الفقر والتقليل من مستوياته والقضاء على البطالة، وأقامت التكافل الاجتماعي وحققت الاستقرار والطمأنينة، ونزعت من القلوب حقد الفقراء على الأغنياء، ومنعت الصراع الطبقي بينهما، وعودت المسلمين على البذل والعطاء والاتسام بالسخاء والرفعة والعلو، وأعادت سُبل الحياة للفقراء والمساكين والمعوزين، وأنقذت المال من الاكتناز والتعطيل القاتل للاستثمار.

وكل هذا يبرهن أنّ الزكاة ليست مجرد إعطاء بعض من المال للفقراء والمساكين والمحتاجين، بل هي وسيلة حقيقية للقضاء على البطالة والفقر والتقليل من مستوياتهما، عبر طرق التحفيز على العمل والتوظيفات المختلفة؛ كإعانة الشباب الفقراء بإعطائهم رؤوس الأموال الكافية للاستثمار والإنتاج والبدء بالعمل والتجارة وغيرها، أو شراء آلات الحرف للخياطة والنجارة والحدادة وغيرها للعمل والإنتاج والخروج من حالات الفقر والمسكنة، ثم بالأخير تحويلهم من حالة أخذ الزكاة إلى حالة إعطاء الزكاة، أي تحويلهم من وضع الأخذ إلى وضع العطاء.

التكافل الاجتماعي له مفهوم واسع يشمل جوانب عديدة مثل: السلام الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية والضمان الاجتماعي، وهو أصل من الأصول التي تنظّم العلاقات الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي

والنبي يقول: «اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله» [صحيح البخاري-1361]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، فاليد العليا هي المُنفقة والسفلى هي السائلة» [صحيح البخاري-1362]، وعنه : «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» [صحيح البخاري-5041].

إن التكافل الاجتماعي يعد أحد أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، ويتمثل هذا التكافل بعوامل مالية شرعية عديدة مثل: الزكاة والصدقة والوقف والكفارات والنذور وغيرها، لضمان الحياة الكريمة للفرد وتحقيق سعادته وبقائه ضمن إطار المودة والأمن والاستقرار والسلام.

وتعد فريضة الزكاة الإلزامية جزءًا أساسيًا من نظام التكافل الاجتماعي بين القادرين والعاجزين في المجتمع الإسلامي.

والتكافل الاجتماعي حقّ أساسي من حقوق الإنسان التي كفلها الله تعالى لعباده في ظلّ الأحكام الشرعية، ويعني أن يكون أفراد المجتمع في كفالة جماعتهم، وأن يكون كل قادر أو ذي سلطان يمدُّ مجتمعه بالخير للمحافظة على تمتين البناء الاجتماعي، وإحساس كل واحد بواجبه تجاه الآخرين، وأن تقاعسه في هذا الجانب قد يؤدي إلى انهيار البناء عليه وعلى غيره.

والتكافل الاجتماعي له مفهوم واسع يشمل جوانب عديدة مثل: السلام الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية والضمان الاجتماعي، وهو أصل من الأصول التي تنظّم العلاقات الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي وفي مواجهة الظروف الاستثنائية العامة والخاصة، وتعبير اقتصادي عملي عن الأخوة الإسلامية، والتعاون على أساس البرِّ والتقوى، وثمرة لتآزر العلاقات الروحية والاقتصادية والثقافية التي تربط أفراد المجتمع الإسلامي بعضهم ببعض.

الزكاة والقضاء على الهيمنة

الزكاة وسيلة شرعية من وسائل الاقتصاد الإسلامي لتقريب المسافة بين الأغنياء والفقراء وتقليل التفاوت فيما بينهما. فالإسلام رغم اعترافه بالتفاوت الفطري في الدخول والأرزاق والكسب بين الناس، ورغم أنّه لم يمنع الغِنى ولم يضع حدًّا أو مستوىً معينًا له؛ إلاّ أنه احترم الفقير ورفع من مكانته واحترامه ولم يسمح بوصوله إلى مستويات الهاوية والانعدام والبؤس، ولم يسمح بازدياد الفقير فقرًا كما يفعله النظام الرأسمالي الوضعي عندما يعمل على ازدياد الغني غِنىً والفقير فقرًا، فتتسع الشُّقة والمسافة الاجتماعية والاقتصادية بين الفريقين، ويصبح الأغنياء طبقة كتب لها أن تعيش في ناطحات سحاب من الغنى، ويصبح الفقراء طبقة كتب عليها أن تموت في أكواخ من البؤس والحرمان.

بل تدخّل الإسلام بتشريعاته الدستورية والقانونية ووصاياه الروحية والخُلقية، لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك، فعمل على تحطيم طغيان الأغنياء المطلق والقضاء على الهيمنة الدايناصورية للرأسمال كالتي تمارسها الرأسمالية الوضعية، وكذلك عمل على القضاء على الهيمنة الأخطبوطية للدولة الاشتراكية الوضعية الممثلة بالقطاع العام.

وقلّلت الزكاة الهوّة والفِرقة بين الفقراء والأغنياء، وزادت من مستوى معيشة الفقراء ورفعت مكانتهم، واعتبرت المسلمين جميعًا إخوانًا متعاونين متعاضدين، سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحدٍ على أحد إلاّ بالتقوى؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13]، وقال رسول الله : «يا أيُّها الناس إنّ ربَّكم واحد ألا لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم» [أخرجه أبو نعيم-حلية الأولياء-3/100- والبيهقي-شعب الإيمان-5137].

الفرق بين الزكاة والضرائب

والزكاة ليست أتاوات (ضرائب أو رشاوى) تؤخذ من الناس، بل هي فريضة إسلامية فرضها الله تعالى على أموال الأغنياء لصالح الفقراء والمساكين والمحتاجين؛ قال الله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة التوبة:98]؛ أي يرون الزكاة والنفقة في سبيل الله «مَغْرَمًا» أي خسارةً ونقصًا، ولا يريدون بها وجه الله تعالى[2].

وفي الوقت ذاته الزكاة عبادة، وجعلها الله تعالى الركن الثالث من أركان الإسلام؛ قال رسول الله : «بُني الإسلامُ على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا» [الألباني – تخريج مشكلة الفقر، ص57 – صحيح]، وهي من حقوق الفقراء والمساكين والمحتاجين، وتطهّر النفس من البخل والشحّ، وتحقق للمسلمين مقاصد عدة أهمها حثّ النفس على العطاء والهبة والخير وانشراح الصدر والشكر للنعم.

قلّلت الزكاة الهوّة والفِرقة بين الفقراء والأغنياء، وزادت من مستوى معيشة الفقراء ورفعت مكانتهم، واعتبرت المسلمين جميعًا إخوانًا

إذا جاء عاملُ (أي موظفُ) الزكاة وطالب المسلم بالزكاة، فليعلم المُزكّي أن إخراج الزكاة له مردودات اجتماعية إيجابية عليه وعلى غيره من أفراد المجتمع الإسلامي. فالزكاة مُنقِذة للفرد المسلم من الفقر والمسكنة والعوز، وتزيد المجتمع الإسلامي قوة وترابطًا، وتُشعر الفقير بأنّ له حقًا في مال الغني يحافظ عليه ويحميه، كما أنها تعمل على تقوية التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم، حيث تحميهم من نفوذ المضلّلين والمغرضين.

ويجب عدم التلكؤ عند إخراجها فهي قرينة الصلاة؛ قال الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: «واللهِ لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقُّ المال، واللهِ لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها» [صحيح البخاري:1399]؛ (العناق: هي الأنثى من المَعزِ، وفي رواية: «عقالًا»، والعقال: هو الحبل، وهي مبالغة منه رضي الله عنه في أنه سيقاتلهم على أي شيء كانوا يؤدونه للنبي ثم امتنعوا عن أدائه).

وقد جنَّد رضي الله عنه جيوشًا لمحاربة من منع الزكاة، وكان الصحابة على رأس تلك الجيوش يحاربون مانعي الزكاة. فواجب المسلم أن يُخرج الزكاة وهو طيب النفس لكي يجد الخير والبركة في عمله هذا.

فالزكاة تطهّر نفوس الأغنياء من الشحّ، وأموالهم من حقوق الغير، وتنمّي روح الجود والكرم والتعاون بين المسلمين، وتسدّ حاجة الفقراء مع حفظ كرامتهم من مدّ أيديهم بالسؤال إلى الآخرين، وتجنيبهم مذلّة المنّ والأذى؛ لكونها حقًّا مفروضًا وليست تطوعًا يمنحه الغني للفقير متى شاء، بل هي حقّ في مال الأغنياء، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [سورة المعارج: 24-25].

المنافع الاجتماعية والاقتصادية للزكاة

يجمع علماء المسلمين على أنّ للزكاة منافع اجتماعية كبيرة؛ ففيها دفع لحاجة الفقراء وإشباع لحاجاتهم، وتقوية للمسلمين ورفع لشأنهم، وفيها إزالة للأحقاد والضغائن التي تكون في صدور الفقراء والمعوزين تجاه الأغنياء والميسورين. فإن الفقراء إذا رأوا تمتع الأغنياء بالأموال وعدم انتفاعهم بشيء منها لا بقليل ولا بكثير، فربما يحملون عداوةً وحقدًا على الأغنياء؛ حيث لم يُراعوا لهم حقوقًا، ولم يدفعوا لهم حاجةً. فإذا صرف الأغنياء لهم نسبة (2.5٪) من أموالهم على رأس كل حول، زالت هذه الأمور وحصلت المودة والوئام.

كما أن فيها تنمية للأموال وتكثيرًا لبركتها، قال رسول الله : «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاّ عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه الله» [صحيح مسلم:2588]، أي وإن نقصت الصدقة المال عدديًا فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل، بل يُخلف الله تعالى بدلها ويبارك له في ماله. وفيها توسعة وبسطٌ للأموال؛ فإن الأموال إذا صُرف منها شيء اتسعت دائرتها وانتفع بها كثيرٌ من الناس، بخلاف ما إذا كانت دُولةً بين الأغنياء لا يحصل الفقراء على شيء منها. فهذه المنافع كلها في الزكاة تدلّ على أن الزكاة أمر ضروري لإصلاح الفرد والمجتمع.

أقسام التكافل الاقتصادي

يقسم العلماء التكافل الاقتصادي إلى قسمين : مادي ومعنوي

  1. التكافل الاقتصادي المادي: هو المساعدة بالأموال كي ينقل المحتاج من حالة الفقر إلى حالة «حدّ الكفاية» أو «حدّ الغِنى»، يقول رسول الله : «إنّ الله فرض على أغنياء الناس في أموالهم قدر الذي يسع فقراءهم، فإن ضاع الفقراء أو أُجهدوا أو عُروا فبما يمنع أغنياؤهم، فإنّ الله محاسبهم بذلك يوم القيامة ومعذِّبهم به عذابًا أليمًا» [أخرجه الطبراني في الصغير:1/275، رقم 453، وأخرجه أيضًا في الأوسط:4/49، رقم 3579].
  2. التكافل الاقتصادي المعنوي: وهو التعاضد والتكاتف والإيثار والتعاطف المعنوي، ويأتي في صور كثيرة كالنصيحة والصداقة والودّ والتعليم والمواساة في الأحزان وغيرها.

إن مفهوم التكافل الاقتصادي يظهر في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة؛ يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الحجرات:10]، ويقول عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ…} [سورة التوبة:71].

ويقول رسول الله : «إنَّ المؤمنَ للمؤمنِ كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا، وشبَّكَ أصابعَهُ» [صحيح البخاري، رقم الحديث: 481]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم، وتراحُمِهم، وتعاطُفِهم مَثَلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمَّى» [صحيح البخاري: 6011]، وقوله : «لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يحبَّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسِه» [صحيح البخاري: 13].

حدود التكافل الاقتصادي

تصل حدود التكافل الاقتصادي إلى أن يعطي المسلم لأخيه المحتاج إلى الحدِّ الذي إذا لم تكفِ الزكاة والصدقات لرفع مستواه المعيشي وإنقاذه من الفقر والعوز، فإن على الاقتصاد والمجتمع الإسلامي ككل مساعدته والتعاون معه بشتى الوسائل المالية لإيصال حالته المعيشية إلى حدٍّ كريم ومرفّه، بحيث يحسّ أنّه فرد حقيقي من هذا المجتمع وليس خارجيًا أو غريبًا عنه، وأنه عضو فعال في المجتمع الإسلامي، يقوم بإعانة الآخرين عند فقرهم وعوزهم، ويقومون هم بإعانته عند فقره وعوزه(4).

ومما يدلّ على هذا أدلة كثيرة من القرآن والسنة، منها: قول الله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [سورة الحشر: 7]؛ حيث يجبُر الدخولَ على التداول والدوران والتنقل بين كافة أفراد المجتمع الإسلامي، من غير حصر أو حِجْر أو حبس لها عند أفراد أو فئات معينين كما يفعل النظام الرأسمالي الوضعي الذي يَحرِم بقية المجتمع منها.

وقول رسول الله : «ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به» [الألباني – صحيح الجامع: 5505، صحيح].

وقوله : «ليس المؤمنُ الذي يشبعُ وجارُه جائعٌ» [الألباني – صحيح الترغيب: 2562، صحيح لغيره].

وقوله عليه الصلاة والسلام: «أيُّمَا أهلِ عرصةٍ أصبحَ فيهم امرؤٌ جائعٌ فقد برئت منهم ذِمَّةُ الله تعالى» [رواه الإمام أحمد، المسند: 8/482]؛ فهذه الأدلة كلها تثبت الضمان والتكافل الاقتصادي اللا محدود في الاقتصاد الإسلامي.