نشرت مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر في عددها الثاني من المجلد الثالث والأربعين (يوليو 2025) دراسة بعنوان: “مفهوم الزينة في القرآن الكريم: دراسة مصطلحية” للدكتور عادل الوادي، أستاذ باحث في علوم القرآن والتفسير والدراسة المصطلحية، بالمختبر العلمي للعلوم الدينية والإنسانية وقضايا المجتمع، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس – المغرب. تتناول هذه الدراسة بالبحث والتحليل مصطلح “الزينة” في القرآن الكريم، بدراسة مصطلحية معمقة تجمع بين المنهج العلمي والبعد الحضاري والاجتماعي للنص القرآني.

وتعد مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر مجلة علمية محكمة، ثنائية اللغة، تصدر مرتين في السنة وتهدف إلى نشر الأبحاث الأصلية عالية الجودة في الدراسات الإسلامية الكلاسيكية والمعاصرة، سواء باللغة العربية أو الإنجليزية.

ما هو مفهوم الزينة في القرآن ؟

في عصر أصبحت فيه قيمة الإنسان تقاس بعدد المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي، وتختزل صورته في “فلاتر رقمية” تخفي أكثر مما تظهر، بات مصطلح “الجمال” أو “الزينة” رهينًا لمقاييس مادية ضيقة. لقد حُصرت الزينة في نطاق الموضة، ومستحضرات التجميل، والممتلكات الفاخرة، وتحول السعي وراءها إلى سباق محموم لا ينتهي.

و يطرح المسلم سؤالاً جوهريا: هل هذا هو مفهوم “الزينة” الذي أراده الله لعباده؟ كيف يتناول القرآن الكريم، كتاب الهداية الخالد، هذا المفهوم المحوري في حياة الإنسان؟

وجاءت دراسة “مفهوم الزينة في القرآن الكريم: دراسة مصطلحية” للدكتور عادل الوادي، للإجابة على هذا التساؤلات، فلم يكتفِ الباحث بالعرض السطحي للآيات، بل غاص في أعماق المصطلح بمنهجية علمية دقيقة ومتكاملة قدمت رؤية بانورامية شاملة لمفهوم “الزينة” جمعت بين:

  • التحليل اللغوي: بالعودة إلى أمهات المعاجم لفهم جذر الكلمة وأصلها.
  • الإحصاء القرآني: بتتبع ورود المصطلح في كل سورة، وتحليل دلالات التكرار والتوزع بين المكي والمدني.
  • الدراسة المفهومية: باستقراء السياقات المختلفة للآيات لبناء شبكة مترابطة من المعاني.

ما هو الأصل اللغوي لمصطلح الزينة ؟

يوضح الدكتور الوادي في دراسته أن فهم المصطلح يبدأ من جذوره في اللغة العربية. فمادة (ز-ي-ن) تدور في أصلها حول معنى محوري واحد: الحُسْن والتَّحْسِين. فالشيء “الزَّيْن” هو نقيض الشيء “الشَّيْن” (القبيح أو المعيب). فالزينة، بكل بساطة، هي ما يُستخدم للتحسين والتجميل.

لكن عبقرية اللغة، كما أبرزها علماء كبار مثل الراغب الأصفهاني، تضيف عمقًا فلسفيًا لهذا المفهوم. فقد قسّم الأصفهاني الزينة إلى قسمين رئيسيين:

  • الزينة الحقيقية: وهي الأهم والأبقى، وعرّفها بأنها “ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا ولا في الآخرة”. أي أنها جمال شامل لا عيب فيه ولا نقص، يرفع صاحبه في الدارين.
  • الزينة الزائفة (أو النسبية): وهي التي “تزين في حالة دون حالة”. كالمال الذي قد يزين صاحبه في أعين الناس ولكنه يشينه عند الله إن كان من حرام أو أدى إلى الكبر.

ثم قسم الدكتور الوادي الزينة الحقيقية إلى ثلاثة مستويات مترابطة:

  • الزينة النفسية: وهي أصل كل زينة، وتشمل العلم النافع، والإيمان الراسخ، والأخلاق الكريمة. هذا هو الجمال الباطني الذي ينير القلب.
  • الزينة البدنية: وتشمل قوة الجسد، وصحته، وسلامته من العيوب. وهي نعمة عظيمة تُعين على طاعة الله وعمارة الأرض.
  • الزينة الخارجية: وتشمل المال الحلال، والمكانة الاجتماعية المحمودة، والجاه الذي يُستخدم في الخير.

هذا التأسيس اللغوي، الذي استند إليه الدكتور الوادي، يوضح أن النظرة الإسلامية الأصيلة للزينة هي نظرة شمولية متكاملة، تبدأ من الداخل (النفس) وتنتهي بالخارج (المظهر والممتلكات)، وتضع معيار القبول النهائي في مدى موافقة هذه الزينة لمرضاة الله في الدنيا والآخرة.

خريطة الزينة في القرآن

من خلال المنهج الإحصائي الدقيق الذي اعتمده الدكتور الوادي، تتكشف لنا دلالات وهي:

  • التكرار والأهمية: وردت مادة “الزينة” ومشتقاتها في القرآن الكريم 46 مرة، موزعة على 28 سورة. هذا الحضور اللافت للمصطلح يؤكد على محوريته في الخطاب القرآني وأهميته في بناء التصور الإسلامي للحياة.
  • التركيز المكي: بناء الأساس العقدي للجمال: الملاحظة الأكثر أهمية هي أن 31 ورودًا (أي حوالي 67%) جاء في السور المكية، بينما ورد المصطلح 15 مرة فقط في السور المدنية. هذه الحقيقة ليست عشوائية، بل تكشف عن المنهج التربوي للقرآن.
  • الزينةفي مكة: حيث كانت مرحلة بناء العقيدة وتصحيح المفاهيم الأساسية عن الله والكون والإنسان، ركز القرآن على ربط مفهوم الزينة بخالقها، ووضعها في إطارها الصحيح كآية من آيات الله، وكميدان للاختبار. كان الهدف هو تحرير الإنسان من عبادة المظاهر وربطه بالجوهر.
  • الزينة في المدينة: حيث تأسست الدولة والمجتمع، جاء الحديث عن الزينة في سياق التشريع العملي وتنظيم السلوك. أبرز مثال على ذلك هو آيات سورة النور التي فصلت في ضوابط زينة المرأة، بهدف بناء مجتمع طاهر ومستقر.

أنواع الزينة في القرآن

تتبع الدكتور عادل الوادي في دراسته آيات الزينة في سياقاتها المختلفة، وأنواع متعددة ومستويات متفاوتة من الزينة، كل منها يحمل رسالة خاصة:

  1. الزينة الكونية: أول وأعظم مظهر للزينة يقدمه القرآن هو جمال الكون الذي أبدعه الله. إنها ليست مجرد خلفية جميلة لحياتنا، بل هي آيات (علامات) دالة على عظمة الخالق وقدرته وجماله. يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (ق: 6). هذه الزينة الكونية، من النجوم اللامعة في السماء إلى الأنهار الجارية والنباتات المتنوعة على الأرض، هي دعوة إلهية للتفكر. هذا التفكر ليس ترفًا فكريًا، بل هو عبادة تقود إلى اليقين بالله وتعظيمه، وتحيي في القلب حس الجمال المرتبط بالإيمان.
  2. زينة الحياة الدنيا: ينتقل القرآن من زينة الكون الشاسعة إلى زينة الأرض القريبة، ولكنه يضعها فورًا في إطارها الصحيح: إنها “ابتلاء” أو اختبار. الآية المحورية في هذا السياق هي قوله تعالى في سورة الكهف: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف: 7).هذه الآية تغير قواعد اللعبة تمامًا. فالمال، والأبناء، والمناصب، والقصور، وكل بهرج الدنيا، ليست هي الغاية. إنها “زينة” مؤقتة وُضعت لاختبارنا. والنجاح في هذا الاختبار لا يُقاس بمن يجمع أكثر، بل بمن يكون “أحسن عملاً”. العمل الأحسن هو ما كان خالصًا لله وموافقًا لشرعه.
  3. الزينة الحقيقية الباقية: في مقابل زينة الدنيا الزائلة، يقدم القرآن بديلاً استراتيجيًا واستثمارًا أبديًا. يأتي هذا في آية تالية في نفس السورة، قال تعالى { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46). هنا يضع القرآن الميزان. نعم، المال والأبناء زينة، ولكنها زينة مؤقتة. أما الزينة الحقيقية التي تدوم وتنمو فهي “الباقيات الصالحات”. وهي تشمل كل قول وفعل وعمل يرضي الله. هذه هي الزينة التي لا تشيخ ولا تفنى، وهي “خير أملًا” لأنها الأمل الحقيقي الذي لا يخيب.
  4. الزينة في حياة المسلم: لم يترك القرآن مفهوم الزينة في الإطار النظري، بل جعله جزءًا لا يتجزأ من حياة المسلم العملية:
  • الزينة في العبادة: الأمر الإلهي واضح: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31). الزينة هنا تشمل جمال الظاهر (الثوب النظيف) وجمال الباطن (الخشوع). إنها رسالة بأن المسلم يقابل ربه بأجمل صورة.
  • زينة الإيمان في القلب: أعظم زينة يتزين بها الإنسان هي زينة الإيمان. يقول تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } (الحجرات: 7). الإيمان هو نور وجمال يزين القلب، فيظهر أثره في سكينة الوجه وحسن التعامل.
  • تكريم وصيانةزينة المرأة: عندما تناول القرآن زينة المرأة في سورة النور، وضع لها ضوابط دقيقة، ليس لكبت جمالها، بل لصيانته وتكريمه. الأمر بـ {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا…} هو توجيه للجمال ليؤدي وظيفته السامية في إطاره الشرعي والآمن.

التعريف الجامع للزينة

استطاع الدكتور الوادي من خلال جهده البحثي في هذه الدراسة من صياغة تعريف جامع لمصطلح “الزينة” يجمع كل هذه الأبعاد: “الزينة هي إبداع الخالق في الكون، وحسنٌ في القول والفعل يورث العزة والرفعة، أنعم الله بها على الإنسان على وجه الابتلاء؛ لينتفع بها المحسنون دنيا وآخرة، ويضل من انشغل عن حقيقتها بكل حسن أو تجميل زائف.”

الخلاصة

ركزت الدراسة على مفهوم الزينة في القرآن الكريم، مبرزةً أهمية المصطلحات القرآنية وجمالها اللغوي والدلالي، حيث يتأسس معنى الزينة على الأصل اللغوي المرتبط بالحسن والتحسين والجمال المحبب، وأوضحت الدراسة الأهمية الكبيرة لحضور مصطلح الزينة وتعدد صيغ وروده في القرآن، وتغير معناه بحسب سياق الآيات، مما يبين ثراء المصطلحات القرآنية ومرونتها الدلالية.

أظهرت نتائج البحث أن الزينة في القرآن مرتبطة بعطاء رباني يمس الإنسان فردا وجماعة، في الدنيا والآخرة، وأن كثرة استعمال الصيغ الاسمية والفعلية تشير إلى استمرارية وأهمية مفهوم الزينة عبر الزمان. كما أبرزت الدراسة دلالات جديدة استعملها القرآن للزينة، مثل الزينة السلبية التي قد تكون وسيلة للابتلاء والاختبار.

لفتت الدراسة إلى حضور مصطلح الزينة في السور المكية والمدنية بطرق متنوعة تؤكد مركزية هذا المفهوم في رسالة القرآن، مع ارتباطه بتهذيب النفس وتطهيرها من الفواحش والفساد. كما اقترحت الدراسة أن فهم مصطلح الزينة يتطلب دراسة علاقاته مع مصطلحات قريبة كالجمال والحسن والخير، مما يعمّق الفهم الواقعي للنص القرآني.

وأوصت الدراسة بضرورة تعميق البحث المصطلحي لمفهوم الزينة، عبر دراسة علاقاته الداخلية والخارجية ومع المصطلحات المجاورة له لضبط المفاهيم وتوسيع دائرة الاستفادة من معانيه في فهم القرآن وتفسيره.