إنّ القيم هي الفضائل الدينيّة والخلقيّة والاجتماعيّة التي تقوم عليها سعادة الفرد والمجتمع في الحياة. قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة الأنعام:161)، فالقيم تعني استقامة العبد، يقول السعدي في هذه الآية: «يأمر -تعالى- نبيه – ﷺ -، أن يقول ويعلن بما هو عليه من الهداية إلى الصراط المستقيم: الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة، والأعمال الصالحة، والأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح، أي ما كان عليه الأنبياء والمرسلون، ولا سيما إمام الحنفاء، ووالد من بعث من بعد موته من الأنبياء، خليل الرحمن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وهو الدين الحنيف المائل عن كلّ دين غير مستقيم، من أديان أهل الانحراف، كاليهود والنصارى والمشركين». وقال ابن كثير في هذه الآية: «{دِينًا قِيَمًا} أَيْ: قَائِمًا ثَابِتًا». وقال الطبري: «قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفية المسلمة، فوفقني له».
سلوك الإنسان وانفعالاته
والتزام القيم الإسلامية من مؤشرات السعادة المؤثرة في سلوك الإنسان وانفعالاته، ومن أمثلة المؤشرات التي وضعها ماسلو maslow «ارتباط الفرد بمجموعة من القيم منها: صدق الفرد مع نفسه، ومع الآخرين، وأن تكون لديه الشجاعة في التعبير عما يراه صوابا، وأن يتفانى في أداء العمل الذي يجب أن يؤديه، وأن يكشف من هو؟ وما الذي يريده؟ وما الذي يحبه؟، وأن يعرف ما الخير له؟، وأن يتقبل ذلك دون اللجوء إلى حيل دفاعية يقصد بها تشويه الحقيقة.
دراسة القيم
وازداد الاهتمام بدراسة القيم داخل مجالات علم النفس لعدد من الأسباب أهمها: أن النظرية الكفء في تفسير السلوك الإنساني والتنبؤ به يجب أن تتضمن موضوع القيم، والقيم ما هي إلا انعكاس للأسلوب الذي يفكر به الأشخاص في ثقافة معينة، وهي إحدى المؤشرات المهمة لنوعية الحياة ومستوى الرقي.
مكون دفاعي قوي
والقيم مكون دفاعي قوي، كما أن لها مكونات معرفية ووجدانية وسلوكية، والقيم وسيلة لها قوة دفع لتحقيق أهداف معينة، ويؤدي ارتقاء نسق القيم لدى الفرد إلى تحقيق توافقه النفسي والاجتماعي، ويرى المحللون النفسيون أن القيم لا تقل أهمية عن الاتجاهات في مجال خدمة حاجة الدفاع عن «الأنا»، فهي تساعد الفرد عن تسويغات معينة لتأمين حياته، وللقيم وظيفة معرفية في تحقيق الذات؛ ففيها الاتجاه لعمل أفضل تصور وتنظيم ممكن بهدف الوضوح والاتساق، والالتزام بالسمات الإيجابية والقيم الأخلاقية والتعبير عنها سلوكيا يزيد من احتمالات السعادة.
مجموعة من الفضائل
والقيم مجموعة من الفضائل تشمل الفضائل القلبية الإيمانية التعبديّة، والفضائل الأخلاقيّة، والفضائل السلوكيّة، وإذا التزم العبد بهذه القيم كان من الله أقرب وأكثر سعادة وطمأنينة، وكان من الناس أسلم، وملأ الله قلبه بكل سكينة وطمأنينة وانشراح، وكلّما كان العبد قريبًا من الله وأكثر طاعة فاز بسعادة الدارين، وفيما يلي بيان لهذه القيم وفق السّنّة النّبويّة.
أولاً: التزام القيم الإيمانيّة التعبدية
الإيمان: هو الاعتقادات القلبيّة، وهو تصديقُ القلبِ مع الإقرار، والمقصود هنا بالقيم الإيمانية ما له علاقة أكثر بأعمال القلوب، وباب العبادة كبير، والعبادات لا تقتصر على هذه الأمور، لكن أسميتها قيما إيمانية تعبدية لعظمها وعلو منزلتها، ومعنى قوله -تعالى- {إِيَّاكَ نَعْبُد}: أي نخصّك دون غيرك بأقصى غاية التذلّل والخضوع لك محبة وتعظيمًا وخوفًا، والعبادة تطلق ويراد بها فعل العبادة: أي التعبّد وهو التذلّل والخضوع لله محبة وتعظيمًا، وتطلق ويراد بها العبادات نفسها، وهي بهذا الإطلاق اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصّلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبّ الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه، والتوكل عليه، ورجاء رحمته والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله، وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضيّة له، التي خلق الخلق لها كما قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات: 56) وبها أرسل جميع الرسل، لكن لا يعبد الله إلا بما شرع، وعلى ما علّمنا إياه الرسول – ﷺ .
التقوى
التقوى هو الحذر، قال الله -عز وجل-: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (سورة المدثر:56) أي هو أهلٌ أن يُتّقى عقابه، وأهل أن يُعمل بما يُؤدّي إلى مغفرته، وأصلُ التّقوى: أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه، حتى يصل للسعادة الحقيقية.
جامعةٌ لكلِّ خيرٍ
و«التَّقْوَى» لفظَةٌ وجِيزَةٌ جامعةٌ لكلِّ خيرٍ دينيّ ودُنيَويٍّ؛ لأنها: امتِثالُ الأوامِر واجتنابُ النَّواهِي، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ زِيَادِ بْنِ فَيْرُوزَ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَلَا تَجْمَعُ لَنَا التَّقْوَى فِي كَلَامٍ يَسِيرٍ تَرْوِيهِ؟ فَقَالَ طَلْقٌ: «التَّقْوَى: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، وَالتَّقْوَى أَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ مَخَافَةَ عَذَابَ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ».
ومن الأحاديث التي جاءت في مدح التقوى وأنها سبيل الفلاح والهداية قول النبي – ﷺ -: حينما سئل عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ – ﷺ -: «تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُق، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ»، وهذا حديث عظيم جمع فيه رسول الله – ﷺ – بين حق الله وحقوق العباد.
مخافة الله في السر والعلانية
ومعنى «التقوى» أي مخافة الله في السر والعلانية حيث يراك الناس وحيث لا يرونك، ومَن عَلِم أن الله يراه حيث كان، وأنه مُطّلع على باطنه وظاهره وسرّه وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر، وبالجملة فتقوى الله في السرِّ هي علامةُ كمالِ الإيمانِ، ولها تأثيرٌ عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناءَ في قلوب المؤمنين، وحسن الخلق من خصال التقوى، ولا تَتِمُّ التقوى إلا به، وإنَّما أُفرد بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإنَّ كثيراً من النَّاس يظنُّ أنَّ التقوى هي القيامُ بحقِّ اللهِ دونَ حقوق عباده، وجاء في الحديث الشريف: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
خصلة عظيمة
والتقوى خصلة عظيمة، يحتاج العبد لتحقيقها إيمانا راسخا، ومجاهدة نفس، حتى يصل لهذه الخصلة التي ترقى به إلى سعادة الدنيا والآخرة، وكلّما كان العبد متقيًا لله ازداد سعادة ورُزق الطمأنينة والانشراح.
تؤثر على سلوكيات العبد
والتقوى خصلة تؤثر على سلوكيات العبد وانفعالاته وفيها ضبط لنفسه، وهي تُكون مناعة نفسية عند المؤمن ضد العناء النفسي ومسبباته، قال ابن رجب: «وقوله – ﷺ – أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة فهاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة، أما التقوى فهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها، وهي وصية الله للأولين والآخرين كما قال -تعالى-: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (النساء: 131)، وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين، ففيها سعادةُ الدُّنيا، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم.
أساس كلّ سعادة وطمأنينة
وهنا نستفيد أنّ تقوى الله أساس كلّ سعادة وطمأنينة، وأن طاعة ولاة أمور المسلمين فيها سعادة الدنيا ومصالح العباد، ولا سيما أن طاعة ولاة الأمور تؤدي إلى ترابط المجتمع وإلى الأمن والأمان الاجتماعي، وهذه الإشارة فيها عمق وبعد في النظر، فمتى تحقق الأمن بأنواعه كلها استطاع العبد أن يعبد الله على أكمل وجه، وعاش عيشة طيبة هنية.
قال ابن القيم: «التقوى امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسّك بها».
د.سندس عادل العبيد