جاءت الشريعة الإسلامية بتحريم الضرر، ومما يحفظه المسلمون عن نبيهم ﷺ: ” لا ضرر ولا ضرار”. وإذا كان العلماء قد اختلفوا في صحة نسبة هذا القول إلى النبي ﷺ، فإنهم لم يختلفوا في أن معناه من مبادئ الشريعة الإسلامية.
لا ضرر ولا ضرار
بل إن بعض العلماء جعل هذا المبدأ ” لا ضرر ولا ضرار” نصف الفقه، وذلك أن الأحكام: إما لجلب مصلحة، أو لدفع مضرة ؛لأن الشريعة إما أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، والأول تجلب فيه المصالح، والثاني تدفع فيه المضار.
وهذا الحديث يشمل بعمومه الضرر العام والخاص، ويشمل دفعه قبل الوقوع بطرق الوقاية الممكنة، ورفعه بعد الوقوع بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره، وتمنع تكراره. المدخل الفقهي العام (2/ 978).
وقد ذكر العلماء أنه يؤخذ من هذا الحديث حكمان:
الحكم الأول : أنه لا يجوز الإضرار ابتداء، أي لا يجوز للإنسان أن يضر شخصًا آخر في نفسه، وماله، سواء كان فيه منفعة له، أو ليس فيه منفعة له؛ لأن إضراره بغيره ظلم، والظلم ممنوع في كل دين. وهو هو معنى ” لا ضرر”
الحكم الثاني: لا يجوز مقابلة الضرر بمثله، فمن أتلف مال غيره مثلًا.وهذا هو معنى ( ولا ضرار ). المدخل الفقهي العام (2/ 978)
تفريق الشريعة بين الضرر المالي والضرر البدني
نجد أن الإسلام في عقوبة الشخص المعتدي، فرق بين نوعين من الضرر: الضرر المالي، والضرر البدني.
فمن أضر شخصا في ماله، بأن حطم سيارته مثلا، أو كسر آلته، أو أفسد زرعه، فلم يشرع الإسلام عقوبته من جنس فعله، فلم يقابله بإتلاف ماله أو آلته أو زرعه، ويمكننا أن تستجلي الحكمة من وراء ذلك من النواحي التالية :
الناحية الأولى : أنه ليس في ذلك منفعة للمضرور.
الناحية الثانية : أن في ذلك توسيعًا لدائرة الضرر بلا نفع لأحد.
الناحية الثالثة : أن في ذلك إضرارًا بالأمة جميعًا، فبتحطيم سيارة المعتدي أو آلته أو زرعه نفويت لهذا المال على الأمة كلها؛ ولذلك قال الله تعالى : {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } [النساء: 5] فنسب المال للأمة جميعا، مع أن المال يكون ملكا لشخص واحد؛ وإنما ذلك لأن الأمة جميعا شركاء في الانتفاع بالمال وإن كان ملكًا لشخص واحد، فالذين يعملون مع صاحب المال شركاء أو أجراء أو يبيعون له أو يشترون منه أو يتكففونه، أو يحصلون على هدية منه إنما ينتفعون به؛ ولذلك هم الذين يملكون حق رفع دعوى السفه والحجر عليه وإن كانوا لا ينتفعون من ماله بشكل مباشر.
فإذا كانت الأمة قد خسرت في الإفساد الأول سيارة واحدة تحطمت، أو حقلا واحدًا أفسد زرعه، أو آلة واحدة هلكت، فإننا لو ذهبنا نعطي المضرور حق المثل، ذهب من مال الأمة سيارتان، وآلتان، وحقلان.
الناحية الرابعة : أننا يمكننا هنا أن نلحق الضرر بالمعتدي وحده، فنحمله تبعة ما أفسد من ماله هو، فيقوم بترميم ما أفسد من ماله الخاص، وبهذا نرفع الضرر كاملًا من فوق كاهل المضرور، وننزله بالكلية بالشخص المعتدي وحده، ويتحقق من ذلك زجر الآخرين، حينما يعلم أن أحدهم إذا ذهب يفسد أرض شخص ما، فكأنما يفسد في أرضه؛ لأنه سيقوم بترميم هذا الضرر من ماله.
أما الضرر البدني، فمن كسر لشخص ذراعه، أو يده، أو أسنانه، أو رجله، أو شجه في رأسه، أو عطل له منفعة من منافع جسمه، أو قتله ، فهنا يكون القصاص، قال تعالى : ” { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] للآتي :
أولًا : لأن هذه الجنايات لا يقمعها إلا عقوبة من جنسها، كي يعلم الجاني أنه في النهاية كمن يعتدي على نفسه، فإذا ذهب يكسر يد شخص ما فليعلم أنه إنما يكسر يد نفسه؛ لأنه سيقتص منه، وإذا ذهب يقتل شخصا فليعلم أنه إنما يقتل نفسه؛ ؛ لأنه سيقتص منه، و العقوبة المالية هنا لا تكون رادعة ولا زاجرة، وإلا تسلط الأغنياء على الفقراء، وحسبهم أن يعوضوهم من مالهم العريض .
ثانيا: لا يقال هنا : إن في هذا توسيعًا لدائرة الفساد، بأن تخسر الأمة رجلين بدلًا من رجل واحد( القاتل والمقتول) أو تخسر يدين بدلا من يد واحدة ( يد المعتدي والمعتدَى عليه)؛ لأن العقوبة هنا قاصرة على المعتدِي وحده في نفسه أو بدنه، وليست مثل إفساد المال الذي ينتفع به المجتمع كله.
ثالثا : أضف إلى ذلك أن مثل هذا الشخص المعتدي يضر ولا ينفع، فالخلاص منه يؤمن المجتمع من شروره التي ربما طالت شخصًا آخر غدا، بل أشخاصًا آخرين.
رابعًا : وما يقال من أن أسرة القاتل سوف تستضر بموته إذا اقتص منه، فذلك مقصود حتى تحرص كل أسرة على منع أفرادها من البطش بالآخرين، فإذا قصرت في هذا الدور، طالها مثل هذا الضرر، وما المجتمع إلا مجموعة من الأسر.
قواعد متممة
وقد ذكر العلماء مجموعة من القواعد الشرعية الضابطة لإزالة الضرر، والتي تضمن عدم توسيع دائرته، منها :
القاعدة الأولى : الضرر يزال
ومن تطبيقات هذه القاعد : من اشترى شيئا مسروقًا وهو لا يعلم، ثم علم أنه مسروق، فصاحبه أحق به، قال رسول الله ﷺ : ” إذا سُرق من الرجل متاعٌ، أو ضاع له متاع، فوجده بيد رجل بعينه، فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن . رواه أحمد، وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط.
القاعدة الثانية : الضرر يدفع بقدر الإمكان . ومن تطبيقات هذه القاعدة أنه لا يجوز تقديم المبتدع الداعي إلى بدعته, ولا المظهر للمنكر إلى أن يكون إماماً يصلي بالناس, والواجب منعه إذا كان موجوداً, لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة, أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر, فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين. فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك بل يصلى خلفه؛ لأن الواجب دفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا. و هكذا في جميع المنكرات يجوز السكوت عنها إذا كان يترتب على إزالتها ضرر أعظم من المنكر نفسه.
القاعدة الثالثة : الضرر لا يزال بمثله. ومن تطبيقات هذه القاعدة : أنه لا يجوز لمن أكره بالقتل على قتل نفس مؤمنة بريئة أن يقتلها بغير وجه حق؛ لأن الضرر لا يزال بمثله ، ولا يجوز لمن أكثر على ضرب أحد أن يضربه ليدفع الضرر عن نفسه؛ فليست نفسه بأولى من نفس غيره.
القاعدة الرابعة : الظالم لا يُظلّم، ولكن ينتصف منه . ومن تطبيقات هذه القاعدة: إذا غصب إنسان أرضا فأقام عليها بناء, فلصاحب الأرض المطالبة بإزالة البناء ويكلف الغاصب الإزالة, لكن لو أراد مالك الأرض أخذ البناء بغير عوض فإنه ليس له ذلك؛ لأنه عين مال الغاصب فلم يملك صاحب الأرض أخذه ؛ لأن فيه ظلما له, والظالم لا يُظلم .
ومنها : أنه لا يجوز ضرب السارق كما يفعل المصلون بلصوص المساجد، بل الواجب إيقاع العقوبة الشرعية به فقط، وضربه ظلم له وحرام شرعا.
القاعدة الخامسة : لا اعتبار للضرر مع الرضا . ومن تطبيقات هذه القاعدة: المبيع إذا حدث به عيب عند المشتري بآفة سماوية أو غيرها ثم اطلع على عيب كان عند البائع, فله أن يرجع بنقصان العيب وليس له أن يرد المبيع؛ لأن الرد إضرار بالبائع؛ لأنه خرج عن ملكه سالما فلو ألزمناه به معيبا تضرر ولا بد من دفع الضرر عن المشتري فتعين الرجوع بالنقصان, إلا أن يرضى البائع أن يأخذه بعيبه الحادث عند المشتري فله ذلك؛ لأنه رضى بالضرر وما كان عدم إلزامه المبيع إلا لدفع الضرر عنه فإذا رضي فقد أسقط حقه.
القاعدة السادسة : يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام.
القاعدة السابعة : درء المفاسد أولى من جلب المنافع.