شرع العديد من المستشرقين الغربيين من الذين عنوا بالدراسات الإسلامية إلى الترويج في كتاباتهم المتعمدة مع سابق اصرار منهم للتقرير بأن الشريعة الإسلامية لا تصلح للعصر الحاضر ولا تستطيع مسايرة التطورات المعاصرة في مجالات الاقتصاد والسياسة والمعرفة وحتي الأخلاق دون أن يبنوا ادعاءاتهم على دراسات علمية دقيقة موثقة ومركزة أو يقدموا طرحا يقوم على أي حجة أو برهان علمي منطقي أو حسي متفق عليه أو له وجه من وجوه الدلالة أو الاعتبار .
وقام هؤلاء المستشرقون ومن تربى على موائدهم وتشرب فكرهم وصُنع بأيديهم وعلى أعينهم من أبناء المسلمين الذين درسوا في الغرب وأصبحوا فريسة لهذا التوجه وتحولوا إلى “أدوات” ونجح هؤلاء في الترويج والدعاية الواسعة لهذا الرأي مستغلين كافة أنواع الوسائل الحديثة المتاحة من مراكز بحوث ودراسات وجامعات و نشر الكتب والمجلات والدوريات مع استغلال الطفرة المعاصرة لوسائل الاتصال العابرة للفضاء من قنوات و مواقع الكترونية وصفحات تواصل اجتماعي …. الخ.
والواقع أن هؤلاء جاهلون بالشريعة الإسلامية أو مغرضون يعملون على هدم هذه الشريعة وإحلال قوانينهم ودساتيرهم الغربية كبديل للشريعة وتنحيتها أو تحييدها عن حياة المسلمين ، ويبنون فكرتهم الخاطئة التي تحولت إلى عقيدة ثابتة في أن الشريعة الإسلامية غير صالحة كمصدر تشريع إما عن قصد مسبق وإصرار لهدف ديني أو سياسي أو دون القيام بدراسة علمية حقيقية قائمة على منهجية البحث العلمي الذي يهدف إلى الوصول إلى معرفة حقيقة الأشياء على ما هي عليه لا كما قد يتمناها أو يتبناها الباحث .
والخطأ المنهجي لدى هؤلاء أنهم قارنوا بين القوانين الوضعية القديمة التي لا تصلح أن تطبق اليوم مع القوانين الوضعية المعاصرة ، التي اثبتت عدم صلاحية القوانين القديمة لهذا العصر وعمموا هذا على الشريعة الإسلامية ، وهذا قياس باطل لا يكاد يجهله باحث مطلع مدقق لا يجد عنتا في بطلانه ، لأنهم يجهلون أو يتجاهلون الفارق ما بين حقيقة القوانين الإنسانية ومصدر الشريعة الإلهية.
ووجه البطلان في هذا القياس أنهم سووا بين القوانين الوضعية التي وضعها البشر وبين الشريعة الإسلامية التي تكفل بوضعها خالق البشر وهو الأعلم بهم وبما يصلح لهم، وهم حين يقارنون إنما يقيسون الأرض بالسماء والخالق برب الخلق، فكيف يستوي في عقل عاقل أن يتجرأ على أن يقيس نفسه بربه خالقه وخالق السموات والارض والموت والحياة والنشور ؟
ويتضح وجه الخطأ في هذه المقارنة أو القياس أنهم سووا بين الشريعة والقانون وهما مختلفان في طبيعتهما مطلق الاختلاف ؛على وجه أن لا قياس بين مختلفين، فالشريعة تختلف عن القوانين اختلافات أساسية معتبرة، وتتميز عنها بمميزات جوهرية تدخل القياس أو المقارنة ممتنعة؛ لأن القياس يقتضي المساواة بين المقيس مع المقيس عليه فإذا انعدمت المساواة فلا يصح القياس أو كان القياس باطلا منافيا للصواب.
ولما كان دعاة عدم صلاحية الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر يبنون قولهم على منهجية قياس الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية ولا مقاربة للمساوة بين الشريعة الكاملة وهذه القوانين التي يعتريها النقص والقصور والشطط والميل؛ فالقياس يكون باطلا ، وما قام على الباطل فهو حتما باطل.
ومن خلال تتبع نشأة وتوسع القانون الوضعي، ونشأة الشريعة الإسلامية نجد الفارق الكبير والبون الشاسع بين الأثنين، وهو ما يدلل على بطلان بل عدمية صحة مجرد التفكير في المقارنة بينهما.
ينشأ القانون الوضعي عادةً في الجماعات الإنسانية للحاجة لتنظيمها في حدود ضيقة القواعد بحسب مظاهر احتياجية لهذه الجماعة أو تلك، ويتأثر بمدى التطور الثقافي لتلك الجماعات فتزداد قواعده وتتسامى وتتوسع نظرياته كلما ازدادت الحاجات للجماعة وتنوعت كلما تقدمت الجموع في تفكيرها وتوسعت معارفها وعلومها وآدابها .
يشبه القانون الوضعي الوليد الحدث حيث ينشأ صغيرا ضعيفا، ثم ينمو ويقوى شيئأ فشيئاً حتي يقوى عوده ويبلغ أشده، وهو يتأثر بتطور ونمو المجتمعات التي يحكمها ويبطئ ويتراجع في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور، فالجموع إذا هي التي تصنع القانون الوضعي وتوجده وتوظفه على حسب الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها، وهو تابع ومتأثر بتقدمها وحاجتها الطارئة التي تحتاج إلى قانون ينظم سيرها .
وإذا كانت هذه هي نشأة القانون ، فإن الشريعة لم تكن نشأتها مثل هذ النشأة ولم تسير في هذا الطريق ولم تمر به أصلا ، فلم تكن بداية الشريعة بقواعد قليلة ثم مع الزمن كثرت ، ولا مبادئ متفرقة ثم جمعت، ولا نظريات أولية ثم تهذبت ولم تمر بمرحلة النشوء ثم الارتقاء، فلم تولد الشريعة طفلة ثم أكملت تطورها ورعت نموها وإنما ولدت شابة مكتملة ، ونزلت من عند الله شريعة كاملة منجمة جامعة مانعة لا ترى فيها عوجا ولا يعتريها نقص أو قصور أو عجز عن معالجة متطلبات الحياة .
أنزلها الله تعالى خالق الخلق على قلب رسوله محمد بن عبدالله ﷺ في فترة محدودة بدأت ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام وانتهت بقوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } ( المائدة 3) .
ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو دولة دون دولة ، وإنما جاءت للناس كافة عربهم وعجمهم وعلى اختلاف مشاربهم وتباين عاداتهم وتقاليدهم وموروثهم الاجتماعي والثقافي والحضاري.
وقد جاءت الشريعة كاملة لا نقص فيها؛ جامعة تحكم كل حالة ، مانعة لا تخرج ولا تستثن عن حكمها حالة ، شاملة لأمور الأفراد وتنظم شؤون الحكم والإدارة والسياسة … الخ .
كما تنظم علاقات الدول بعضها ببعض في السلم والحرب ، ولم تأت لوقت دون وقت أو لعصر دون عصر أو لزمن دون زمن؛ وإنما هي شريعة كل عصر حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
الدساتير والقوانين المدنية والجنائية الوضعية بفروعها مختلفة عن الشريعة الإسلامية بكون مصدر الشريعة إلهي مقدس وضع الأصول الكلية والقواعد العامة والمقاصد الجامعة وفرض على الناس تحقيقها ، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل يتخيرون منها ما يتناسب مع متطلب الظرف واحتياجات العصر، وترك لهم حرية الاجتهاد ما وسعهم لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة .
وأساس الفرق بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية هو أن الشريعة من عند الله تعالى وهو القائل : في محكم كتابه { لا تبديل لكلمات الله } (( يونس 64 )) وهو العالم والقادر على أن يضع للناس نصوصا خالدة تبقى صالحة لكل زمان ومكان ولكل الناس دون استثناء أو تمييز، اما القوانين التي من وضع البشر المخلوق فإنها توضع بحسب الحاجة الوقتية من حيث الزمان والمكان، فهي تعبير عن قصور البشر عن معرفة الغيب وتأثرهم بمحيطهم الاجتماعي والاقتصادي فالقانون البشري ناقص وقاصر بنقص الانسان وقصوره ، بينما الشريعة تتمثل فيها قدرة الله الخالق وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن فهي ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان أو تبدلت الأزمان أو تطور الانسان فهي مستمرة مع استمرار الحياة و صالحة لصلاح المصدر الذي أوجدها لتكون هي الحاكمة ولا يوجد حالكم عليها .