شاع بين العلماء والباحثين تقسيم أحكام الشريعة إلى قسمين، القسم الأول: أحكام معقولة المعنى، والقسم الثاني: أحكام غير معقولة المعنى، ويضربون مثلا على الأحكام غير معقولة المعنى بالعبادات؛ كالطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر العبادات، لكن هذا التقسيم يحتاج إلى إعادة نظر من أكثر من جهة:
الجهة الأولى: أن التشريع والأحكام تمثل التكليف، والعقل مناط التكليف، فكيف يكلف المرء بشيء لا مدخل للعقل فيه؟
والثانية: فرق بين كون العبادات توقيفية، وكون المعاملات مصلحية من جهة، وبين كون تلك العبادات ليست معقولة المعنى، فلقد عقلنا معنى الطهارة الحسية والمعنوية، وعقلنا معنى الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه طوال اليوم خمس مرات حتى يظل المرء في صلة دائمة بربه سبحانه وتعالى، حتى في تنويع الصلاة على الليل والنهار هو أمر معقول المعنى، وعقلنا كون الصيام تدريبا وتهذيبا للنفس البشرية، وعقلنا معنى الزكاة مواساة من الأغنياء للفقراء، وتعبيرا عن انتماء المسلم إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وأن النظرة الفردية المحضة ليست من الإسلام، كما أنها طهارة للنفس من الأخلاق الرذيلة من الشح والبخل، وعقلنا أن الحج تجريد العبد من علائق الدنيا، وتذكيره بيوم القيامة، حتى يتذكر مركزية حياته والهدف الذي جاء من أجله إلى الدنيا، فكيف يقال: العبادات غير معقولة المعنى؟!
بين التعليل والتعقيل
هناك فرق بين تقسيم الأحكام إلى أحكام معللة، يعني أصل بنائها على العلة أو السبب، وأحكام غير معللة، يعني بناؤها ليس على علة وسبب، ومعلوم أن العلة هي الوصف الظاهر المنضبط التي تبنى عليه الأحكام، فحرمة جمع الرجل في الزواج بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها؛ خشية قطع صلة الرحم، وحرمة خطبة الأخ على خطبة أخيه، أو بيعه على بيعه؛ خشية المشاحنة والبغضاء، وحرمة الربا؛ لما يترتب عليه من المفاسد في مجال المال، وغيرها من آلاف وملايين الأحكام التي عرفت علتها، فيدور الحكم فيها مع وجود العلة، وينتفي مع انتفاء العلة، فانقلاب الخمر خلا؛ يحولها من الحرمة إلى الحل؛ لأن العلة أو السبب الذي بني عليه الحكم تغير؛ فيتغير الحكم. وهذه الأحكام غالبها يكون في باب المعاملات، وهو باب واسع يدخل فيه المعاملات المالية، والأحكام الشخصية، وفقه الحكم والقضاء وغير ذلك من أنواع المعاملات.
العبادات غير معللة
أما أحكام العبادات التي هي غير معللة؛ فهي تنظم علاقة العبد بربه، ومن صفاتها الثبات في الغالب، ولأن الغاية العظمى منها تحقيق العبودية لله؛ فهي غير معللة، لكن نفي التعليل عنها لا ينفي عنها التعقيل، لأن تعقل تلك الأحكام وارد في باب الحكم والمناسبات، والبحث عن حكم الأحكام ومناسباتها باب واسع، لكنه باب اجتهادي؛ لا يرتبط الحكم به، فهو يجيء بعد الحكم، نبحث عنه؛ حتى تطمئن قلوب الناس للأحكام، وحتى تعرف الحكم والأسرار من ورائه، لكن وصف تلك الأحكام بأنها غير معقولة المعنى كلام غير منضبط في الجملة، فإن الشريعة في جملتها معقولة المعنى، سواء في الأحكام التي بنيت على العلة، أو الأحكام التي لم تبن على العلة، وإنما بنيت على التعبد والتوقيف.
وهذا مجال يفسح للعقل الإعمال والبحث والتنقيب؛ لتبقى الشريعة الغراء صافية، ليس فيها ذلك الصدام المزعوم والموهوم بين النص والعقل، فالنص أصل، والعقل خادم، له حضوره في كل أبواب الشريعة، وكل أبواب الأحكام سواء في باب العبادات أو المعاملات أو العادات أو الآداب.
وبالطبع فإن القول أن أحكام الشريعة في الجملة معقولة المعنى محل اجتهاد كبير بين الفقهاء، فليس بلازم التوافق على المعنى المعقول في الحكم، فقد يكون مختلفا فيه بين الفقهاء، ولكنه من حيث الأصل معقول المعنى.
مدرسة الرأي ومعقولية المعنى
وهذا الكلام يتوافق مع ما عرف بمدرسة الرأي عند الفقهاء من الأحناف ومن وافقهم، حيث كانوا يجنحون إلى معقولية معنى الأحكام الشرعية في الجملة.
جاء في تحقيق التحصيل من المحصول للأرموي (1/ 102):
” وأما الطريقة الثانية فهي طريقة أهل الرأي وكان هؤلاء في العراق وهم تلاميذ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، وهؤلاء اهتموا بالبحث عن علل الأحكام اعتقاداً منهم أن أكثر الأحكام الشرعية معقولة المعنى، والمقصود من شرعيتها مصالح العباد”.
بل ينقل الحجوي الثعالبي في كتابه: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/ 385):
كان إبراهيم النخعي يرى أن أحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على مصالح, راجعة إلى الأمة، وأنها بُنِيَت على أصول محكمة, وعلل ضابطة لتلك الحكم فُهِمَت من الكتاب والسنة، وشرعت الأحكام لأجلها لينتظم بها أمر الحياة، فكان يجتهد في معرفتها ليدير الحكم لأجلها حيث درات، وإن العقل يمكن أن يدركها ويدرك حسنها وقبح ضدها؛ لأن الشرع أرشد إليها, لا أن العقل له استقلال في ذلك كما يقول المعتزلة, وإنما المراد أن العقل يدرك حُسْنَ الحَسَن وقبح القبيح، فيمدح على الأول ويذم على الثاني, لا أنه يستقل بإدراك الثواب على الأول والعقاب على الثاني، فإن الثواب والعقاب إنما يعرف من قِبَلِ الشرع، فأحكام الله لها غايات, أي: حِكَمٌ ومصالح راجعة إلينا”.
ويقول الشاطبي: الموافقات (2/ 395):
” والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات، فهي في الحقيقة معقولة المعنى، كسائر فروض الكفايات التي هي مصالح للدنيا، لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الأخروي إلا إذا قصد وجه الله تعالى وإعلاء كلمة الله، فإن قصد الدنيا، فذلك حظه، مع أن المصلحة الجهادية قائمة”.
وإلى القول بمعقولية العبادات مال الدكتور الريسوني في دراسته نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (ص: 192)، ونقل عن الشاطبي إثبات التعليل في بعض أحكام العبادات فقال:
” فمجال العبادات ليس مجالا مغلقًا محظورا عن التعليل المصلحي، بل للتعليل فيه مدخل، أو مداخل.
ومن هذه المداخل أيضًا، أن الرخص الواردة في أحكام العبادات كلها معللة، معقولة المعنى. وقد اعترف الشاطبي بشيء من هذا، ولكنه أغلق الباب بسرعة، حيث قال: “وأيضًا فإن المناسب فيها “يعني في العبادات” معدود عندهم فيما لا نظير له، كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره، والجمع بين الصلاتين، وما أشبه ذلك”.
وفي مسألة شبيهة بمسألة الرخص، صرح الشاطبي بتعليلها، تعليلا مناسبًا، وذلك في شأن النواهي النبوية -لبعض الصحابة- عن المبالغة في بعض العبادات إلى حد الإرهاق والملل. قال “هذا كله معلل معقول المعنى، بما دل عليه ما تقدم، من السآمة والمل، والعجز وبغض الطاعة وكراهيتها. وإذا كان كذلك فالنهي دائر مع العلة وجودًا وعدمًا”.
وفي تفاصيل الطهارات وأحكام المياه، لا نستطيع التغاضي عن كون المناسب هو الغالب الظاهر، ولا يمكن أن يعد مما لا نظير له. ومن هذا القبيل “أي معقولية أحكام الطهارات والنجاسات” ما قرره المقري، وجعله قاعدة مطردة”.
الخلاصة
والمقصود من هذا الكلام وتلك النقول تحريك المياه الراكدة في التعامل مع كثير من أبواب الشريعة أنها ليست معقولة المعنى، حتى العبادات فيها ما هو معقول المعنى، بل الشريعة في الجملة معقولة المعنى، تبقى بعض الجزئيات يصعب على العقل الوقوف على تعقلها في كل جزئية، أما في الإطار العام، فالشريعة معقولة المعنى، وفرق بين معقولية المعنى وعدم التعليل.