قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159) قد يبدو الأمر بالشورى أمرا معتادا مكرورا في القرآن، ففي القرآن مثلا نجد قوله تعالى : {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]
لكن الدرس الأهم في هذه الآية :(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159) أنها نزلت بعد مشورة كادت أن تهلك الأمة، ومع ذلك يتنزل الأمر الإلهي بوجوب الاستمرار في العمل بالشورى!
مشاورة النبي لأصحابه في غزوة أحد
جمع النبي ﷺ المعلومات عن جيش كفار قريش الذي تأهب لغزو المدينة، ورأى رسول الله ﷺ البقاء في المدينة، وقال: «إنا في جنة حصينة» فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وبنى رسول الله ﷺ هذا الرأي على أسس عسكرية منها :
1 – أن جيش مكة لم يكن موحد العناصر، وبذلك يستحيل على هذا الجيش البقاء زمنًا طويلاً إذ لا بد من ظهور الخلاف بينهم إن عاجلاً أو آجلاً.
2 – أن مهاجمة المدن المصممة على الدفاع عن حياضها وقلاعها وبيضتها أمر بعيد المنال, وخصوصا إذا تشابه السلاح عند كلا الجيشين، وقد كان يوم أحد متشابهًا.
3 – أن المدافعين إذا كانوا بين أهليهم فإنهم يستبسلون في الدفاع عن أبنائهم وحماية نسائهم وبناتهم وأعراضهم.
4 – مشاركة النساء والأبناء في القتال وبذلك يتضاعف عدد المقاتلين.
5- استخدام المدافعين أسلحة لها أثر في صفوف الأعداء مثل الأحجار، وغيرها, وتكون إصابة المهاجمين في متناولهم.[1]
لكن الرسول ﷺ لم يعتمد على هذه الخبرة العسكرية، وجمع أصحابه وشاورهم، فأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو ولم يتناهوا إلى قول رسول الله ﷺ ورأيه، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرًا، قد علموا الذي سبق لأهل بدر من الفضيلة) [2]
رغم الرؤيا والخبرة
وإذا أضفنا إلى هذه الخيرة العسكرية تلك الرؤيا التي رآها رسول الله ﷺ: ” رأيت في سيفي ذي الفقار فلًّا، فأولته: فلا يكون فيكم، ورأيت أني مردف كبشا، فأولته: كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها: المدينة، ورأيت بقرا تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير” [3]
إذا أضفنا الرؤية إلى الخبرة أمكننا أن نقول : لقد كان في استطاعة رسول الله- ﷺ- أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة، التي تعرضت لها لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة، مستنداً إلى رؤياه الصادقة، ولكنه- وهو يقدر النتائج كلها- أنفذ الشورى. وانفذ ما استقرت عليه، ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي، وتبعة العمل. لأن هذا في تقديره- ﷺ- وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه، أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة، ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة. فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة، وحرمانها المعرفة، وحرمانها التربية!
بعد الهزيمة
ثم بعد الهزيمة التي كانت الشورى الجماعية أحد أسبابها، يتنزل القرآن :(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159) فمعنى الآية : أي دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الوقعة (غزوة أحد) وإن أخطئوا الرأي فيها؛ فإن الخير كل الخير في تربيتهم على العمل بالمشاورة دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابا، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم (المشاورة) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر.[4]
ويقول ابن عاشور في معنى الآية : “أي شاورهم ، ولا يصدك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى، فإنما كان ما حصل فلتة منهم، وعثرة قد أقلتهم منها.[5]“
ويقول الشيخ الشعراوي :”ولا تقل: استشرتهم وطاوعتهم في المشورة، وبعد ذلك حدث ما حدث، فتكره أن تشاورهم، لا تقفل هذا الباب برغم ما حدث نتيجة تلك المشورة وأنَّها لم تكن في صالح المعركة، فالعبرة في هذه المشقة هي أن تكون «أحدُ» معركة التأديب، ومعركة التهذيب، ومعركة التمحيص، إذن فلا ترتب عليها أن تكره المشورة، بل عليك أن تشاورهم دائما”[6]
الخبرة
لا شك أن هذه الآية وقت أن تنزلت لم يكن المسلمون بعدُ قد اكتسبوا خبرة عسكرية تحصنهم من الوقوع في مثل الخطأ الذي أدى بهم إلى الهزيمة، فلماذا إذن التأكيد والإصرار على تعزيز مبدأ الشورى مع هذه الحال؟
الإجابة: إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته! فهو يعلم أنها لن تستعد أبداً لمزاولته إلا إذا زاولته فعلاً، وأن حرمانها من مزاولة مبادئ حياتها الأساسية- كمبدأ الشورى- شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله، وأن الأخطاء في مزاولته- مهما بلغت من الجسامة- لا تبرر إلغاءه، بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت؛ لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي، ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف. بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقاً! وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعالى- بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: «فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»[7] . وفي هذا رد لدعوات الديكتاتوريين من أصحاب السلطة، أو من زعماء الحركات الإسلامية بإرجاء مبدأ الشورى حتى تتهيأ القاعدة، ويتدرب المواطنون عليها.
قال ابن إسحاق: لم يزل الناس برسول الله ﷺ الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله ﷺ بيته، فلبس لأمته، فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله ﷺ بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله ﷺ: (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم تلاوموا، فقالوا: أمرنا لأمرك تبع، فقال رسول الله ﷺ: «إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل».
هنا يرفض الرسول ﷺ أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين، واعتباره هذا تردداً وأرجحة. وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته، من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم، والشلل الحركي. فقال قولته التربوية المأثورة: «ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له» .. ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» .. فتطابق- في المنهج- التوجيه والتنفيذ..[8]
[1] – انظر: القيادة العسكرية للرشيد، ص374.
[2] – انظر: البداية والنهاية (4/ 14).
[3] – والمعنى فأوّلته انهزاما يكون فيكم، وكان ذلك في غزوة أحد، وتأويل البقر ما أصاب أصحابه يوم أحد من استشهاد سبعين، والثلم الذي كان في سيفه برجل من أهل بيته يقتل فكان حمزة رضي الله عنه سيد الشهداء.
[4] – تفسير المنار (4/ 163)
[5] – التحرير والتنوير (4/ 148)
[6] – تفسير الشعراوي (3/ 1839)
[7] – في ظلال القرآن (1/ 532)
[8] – في ظلال القرآن (1/ 533)