فرضت التحديات التي واجهت المصلحين المسلمين خلال القرنين الماضيين، أن يعيدوا اكتشاف الإسلام، ويفتشوا عن أفكار النهوض ووسائله من خلال العودة إلى التراث، وكانت الشورى من أهم الأفكار التي نوقشت وتراكمت حولها الآراء والاجتهادات.
وردت الشورى في القرآن في موضعين، الأول في سورة الشورى في قوله: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)[1] ، وفي سورة آل عمران: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)[2] ، ويلاحظ في ورودها أن سورة الشورى مكية النزول، وهو ما يعني أن الأمر بالشورى كان قبل قيام أي كيان سياسي للمسلمين، أما ورودها في سورة آل عمران، فجاء بعد الهزيمة في غزوة “أحد”، والتي كان الأخذ بالشورى أحد مسببات الهزيمة، ورغم ذلك أمر القرآن بالأخذ بالشورى وعدم تركها إلى رأي الفرد أو القلة.
وخاض المصلحون على امتداد القرن الماضي جهادا فكريا وسياسيا من أجل تعميق الشورى في تصور المسلمين وواقعهم، ونفي الآراء التي تزيحها عن حياتهم تحت دعوى أنها غير ملزمة، وقدم المصلحون اجتهادات معتبرة لتوسيع قاعدة الشورى وعدم قصرها على المجال السياسي، لتكون الشورى أحد المعالم الكبرى في حياة المسلمين الاجتماعية والعلمية والاقتصادية.
رأى المصلحون أن الشورى فريضة سياسية واجبة، وأن تركها يعد ذنبا سياسيا، وأنها لصيقة بواقع المسلمين، وكان جمال الدين الأفغاني من أوائل من نبه إلى أهميتها، فيقول:”ولقد رأينا من عقلاء الملوك من حكم عقله فأرشده إلى استبدال مطلق الملك بالملك الشوري فاستراح وأراح”، لذا أصر الأفغاني أن تشارك الأمة في الحفاظ على مصالحها من خلال الشورى الملزمة، ورفض الحكم المطلق، يقول “محمد باشا المخزومي” الذي كتب “خاطرات” الأفغاني:”عُرف جمال الدين بغرضه، وسعيه الحثيث، لجمع شتات أهل الشرق..ويأخذ كل ملك أو أمير-في الشرق- على ترقية شعبه وتحسين ملكه وتحصينه بالحكم الشوري الدستوري”[3]، أما الشيخ محمد عبده فله نص قديم عن أهمية الشورى في المجال القانوني، يقول فيه:”أفضل القوانين وأعظمها فائدة هو الصادر عن رأي الأمة العام، أعني المؤسس على مبادئ الشورى، وأن الشورى لا تنجح إلا من كان بينهم رأي عام” ثم يقول:”إن استعداد الناس لأن ينهجوا المنهج الشوري غير متوقف على أن يكونوا متدربين في البحث والنظر على أصول الجدل المقررة لدى أهله، بل يكفي كونهم نصبوا أنفسهم وطمحت أبصارهم للحق، وضبط المصالح على نظام موافق لمصالح البلاد وأحوال العباد”[4].
وجاء في “ظلال القرآن” أن: ” الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه.. أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة، تتم بها حقيقة الشورى – لا مظهرها – فهي من الإسلام”[5]، والفقيه الدستوري الدكتور توفيق الشاوي يذهب أن الشورى أداة توازن بين حرية الفرد ونظام الجماعة، ويرى أنها ملزمة وأصل من أصول الحكم الإسلامي، “ويتفرع عنها ثلاثة مباديء، أنها: أساس المجتمع حتى قبل قيام الدولة أو الحكومة، وهي الأساس الشرعي لحق الأمة في تقرير مصيرها، وأنها ملزمة للجميع حكاما ومحكومين”[6]، أما القاضي عبد القادر عودة فأكد أن الشورى من لوازم الإيمان اللصيقة به، فلا يكمل إيمان المؤمنين إلا بوجود صفة الشورى بينهم، وأن غياب الشورى يجعل الجماعة المسلمة آثمة، فالشورى فرض على الحاكم، وفرض على الجماعة، “فليس للحاكم أن يستبد برأيه في الشئون العامة، وليس للجماعة أن تسكت فيما يمس مصالح الجماعة”[7]، فــ”الشورى لازمة من لوازم المسلمين في كل أحوالهم، وأطوار ومراحل حياتهم مستضعفين كانوا أو متمكنين، في قلة كانوا أو كثيرة، أصحاب دولة وصولة وسلطان يُهاب أم متجردين من ذلك كله يخافون أن يتخطفهم الناس”[8]، وفي كتاب “الحريات العامة” يرى الشيخ راشد الغنوشي “أن الشورى هي الأصل الثاني للنظام الإسلامي بعد النص، والشورى بذاتها نص على الإقرار للأمة المستخلفة بحقها في المشاركة العامة في الحكم، بل إن ذلك من واجباتها الشرعية..إن الشورى في الإسلام ليست حكما فرعيا من أحكام الدين يستدل عليه بأية أو بآيتين وبعض الأحاديث والوقائع، وإنما هي أصل من أصول الدين ومقتضى من مقتضيات الاستخلاف أي أيلولة السلطة الربانية إلى العباد..ومن ثم كانت الشورى العمود الفقري في سلطان الأمة، ونهوضها بأمانة الحكم على أساس المشاركة والتعاون والمسؤولية “[9]
إلزامية الشورى
ورغم غياب الإجماع عن فكرة إلزامية الشورى داخل الفكر الإسلامي المعاصر، إذ رأت بعض الاجتهادات أن الشورى مُعلمة للحاكم وليست مُلزمة، فللحاكم أن يأخذ برأي الجمهور إذا رأى أمرا ما، ومن حقه أن يسير في الاتجاه الذي يراه، حتى ون خالف الشورى، إلا أن هذا الرأي كان ضعيفا ومحدودا للغاية، ولا يمثل التيار الغالب، فقد “رأى جمهور العلماء والفقهاء المعاصرين، مثل: محمد رشيد رضا، والمودودي، ومحمد سليم العوا، وشلتوت، أن الشورى بنتيجتها للإمام ملزمة، وعليه أن يأخذ برأي الأغلبية، وإن كان رأي الأغلبية يخالف رأيه”[10]
كان المصلحون يدركون أهمية إلزامية الشورى، فالمفكر سيد قطب أكد أن “الشورى ملزمة “[11]، أما الشيخ محمد الغزالي في كتاب “أزمة الشورى” فخصص فصلا بعنوان”ملزمة أو معلمة” وصف فيه من يقول بأن الشورى مُعلمة، بأنه من ذوي الفكر الطفولي العليل، لأن القول بأن الشورى مُعلمة أوجد جور الحكام، وقهر الأمم، لأن مهمة الفكر الديني هي إنشاء الكوابح التي تحول دون الاستبداد، يقول الغزالي “لحساب من يقال هذا اللغو السخيف؟ أهذا هو التفسير المجمع عليه لقوله تعالى”وأمرهم شورى بينهم””[12]، ورأى أن الشورى الناقصة شورى مزورة مرفوضة.
الشورى الاجتماعية
توسع المصلحون المسلمون في مفهوم الشورى، ودعوا ألا تقتصر المجال السياسي، وأن من الواجب أن تمتد للمجال الاجتماعي، لأن ذلك يرسخ ممارستها، ويخلق لها سياجات قوية من الحماية والفعالية، ويجعل اقتلاعها من المجال السياسي ذا صعوبة بالغة، لتجذرها مجتمعيا، فـ”الشورى منهج حياة فعلية لا يتجلى كل ما تقتضيه في الواقع حتى يشرب الشعب والحكام روحها ويتزكوا نفسيا بمعانيها ويتجلى في كل سلوكهم العام بآدابها، فالشورى من الإسلام ليست نصوصا موضوعية أو أشكال علاقات سياسية، بل هي انفعال عميق وفعل ملتزم في حياة الأسرة ومعاملات الاقتصاد والاجتماع” [13]، ففي تحول الشورى إلى المجال الاجتماعي إقامة لحاجز منيع ضد استبداد أي ولي أمر مهما صغر دوره مجتمعيا أو وظيفيا أن يستبد بمن يتحمل مسؤوليتهم، كذلك فإن اقتصار الشورى على المجال السياسي دون المجالات الاجتماعية والعلمية والاقتصادية يخلق أزمة كبيرة في المجتمع، “فلن تستكمل روح المساواة والشورى حتى يزول الطغيان في منهج الأسرة”[14]، أما الدكتور توفيق الشاوي، فيرى أن “نص القرآن الكريم في سورة الشورى “وأمرهم شورى بينهم” يستلزم أن تكون الشورى منبعا لجميع نظم المجتمع بما في ذلك النظام السياسي.. وشمول الشورى يجعلها أساسا لجميع أمور الجماعة، ونظم المجتمع في النواحي التشريعية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، هذا الشمول هو الذي يجعلها أعلى مراتب الديمقراطية في المجال السياسي”[15] ، وأكد سيد قطب أن الشورى “أصل من أصول الحياة في الإسلام، وإنها بذلك أوسع مدى من دائرة الحكم، لأنها قاعدة حياة الأمة المسلمة” [16]، والمفكر السوداني عصام البشير، الذي رأى أن “أمر الورى يتجاوز السياسة بمعناها المحدود، والدولة بمبناها المرسوم ليشمل كل أمر من أمور المسلمين لا فرق في ذلك بين سياسة واقتصاد واجتماع وما شئت من تقسيمات”[17]، فـ”القوة الناضجة للرأي العام تفترض حرية الشورى والتشاور وتبادل الرأي بحرية بين مختلف مكونات النسق الاجتماعي، وهكذا تنطلق نظرية الشورى إلى حيز الوجود الاجتماعي التطبيقي”[18]
[1] سورة الشورى:38
[2] آل عمران:159
[3] فارس الأشقر-قضايا ساخنة في فكر جمال الدين الأفغاني-دار زهران للنشر والتوزيع- الأردن-الطبعة الأولى -2011 ص: 61
[4] مقتطفات من مقال كتبه الإمام محمد عبده في صحيفة “الوقائع المصرية-العدد (1290) 25/12/1881
[5] سيد قطب-في ظلال القرآن-الجزء الأول-دار الشروق القاهرة-الطبعة الثانية والثلاثون-2003-ص:500
[6] مجموعة مؤلفين-أهم الكتب التي أثرت في فكر الأمة في القرن التاسع عشر العشرين:محور الفقه والقانون والثقافة- دار الكلمة للنشر والتوزيع-القاهرة-الطبعة الأولى-2017 ص:322
[7] عبد القادر عودة-الإسلام وأوضاعنا السياسية-نسخة من على الانترنت- ص:62
[8] عمر البشير-الشورى والديمقراطية:مساحات الاتفاق والاختلاف-مجلة الجامعة الإسلامية-رابطة الجامعات الإسلامية- العدد(50)-2017 ص:53
[9] راشد الغنوشي-الحريات العامة في الولة الإسلامية-مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت-الطبعة..ص:108و109
[10] خالد محمد عطية صافي، وآخرون-إشكالية العلاقة بين الشورى والديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر:دراسة مفاهيمية-مجلة جامعة الأقصى-يناير 2009- ص:105
[11] خالد محمد عطية صافي وأيمن يوسف طلال-إشكالية العلاقة بين الشورى والديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر-مجلة جامعة الأقصى-المجلد (13) العدد(1)-2009-ص:113
[12] محمد الغزالي-أزمة الشورى في المجتمعات العربية والإسلامية-دار اشلرق الأوسط للنشر-القاهرة-الطبعة الأولى1990-ص:87
[13] حسن الترابي-الشورى والديمقراطية:إشكالية المصطلح والمفهوم-مجلة المستقبل العربي السنة الثامنة العدد 75 مايو 1985-ص:38و39
[14] حسن الترابي- مرجع سابق-ص:39
[15] توفيق الشاوي-الشورى أعلى مراتب الديمقراطية-الزهراء للإعلام العربي- القاهرة-الطبعة الأولى-1994-ص:15
[16] خالد محمد عطية صافي وأيمن يوسف طلال-إشكالية العلاقة بين الشورى والديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر-مجلة جامعة الأقصى-المجلد (13) العدد(1)-2009-ص:113
[17] عصام البشير-مرجع سابق-ص:53
[18] إبراهيم البيومي غانم-ميراث الاستبداد- نيوبوك للنشر والتوزيع-القاهرة-الطبعة الأولى-2018- ص121