كتاب “لأن الإنسان فان: الطب وما له من قيمة في نهاية المطاف” للأمريكي “أتول غواندي” رشيق العبارة، جميل السرد والحكي، مكتظ بالمعلومات، عميق الرؤية، مدعوم بالإحصاءات والرسوم البيانية، جمع فيه الكاتب -وهو طبيب- بين ثقافته الأمريكية، فهو من الجيل الثاني لأبوين طبيبين هنديين هاجرا إلى الولايات المتحدة واتخذها وطنا، وبين الثقافة الهندية، خاصة الهندوسية، وعندما تنتهي من قراء صفحاته الـ(290) تجد أن كل ما سبق يمكن صياغته في أربع كلمات أو (12) حرفا لن يخرج عنها محتوى الكتاب، وهي قوله تعالى:”كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ”، فالإنسان سيدركه الفناء لأنه مصنوع من مادته، وستضربه الشيخوخة بأمراضها وستدفعه إلى الموت دفعا، حتى وإن أحاط به أمهر الأطباء، فالحياة لها نهاية، والطرق له محطة وصول لابد أن ينزل فيها الإنسان، ولكن الإنسان المعاصر أصبح أقل ذكرا للموت ظنا منه أن الطب الحديث، والتقدم العلمي الهائل استطاع قهر الموت، وإبعاد الشيخوخة من طريق الإنسان، غير أن الكتاب يزيح هذا الوهم، ويمدك بحقائق حول الشيخوخة الزاحفة على البشرية، وحول الطب العاجز عن مداواتها، ووقف مسيرتها نحو الإنسان.
معنى الفناء
يحكي الكاتب عن والده الطبيب في آخر يوم من حياته، وهو في شيخوخته، وبعدما تناول غذاءه ودواءه، سأله ابنه “أتول”: فيم تفكر؟
فأجابه الأب: أفكر كيف لا أطيل عملية الموت، وهذا الطعام يطيل عملية الموت.
وبعد لحظات اضطرب كل شيء، ومات الأب الطبيب بين ابنه الطبيب وزوجته الطبيبة.
فما معنى أن يكون الإنسان فانيا؟ إن البيولوجيا تفرض قيودها على الإنسان، ولا مهرب منها، وكلما تقدم الطب والعلم في دراسة الخلايا كلما أيقن بحقيقة الفناء، وأن الموت لا يمكن مدافعته.
ولكن إذا كانت تلك الحقيقة فما فائدة الطب؟ وما هي الحدود التي يتحرك فيها؟ وما أقصى آمالنا المتوقعة في الطب؟
يخبرنا الكتاب أنه حتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، فإن 17% من البشر ماتوا في المستشفيات بين أيدي الأطباء وتحت رعايتهم، أما البقية فماتت على أسرتها في بيوتها وبين ذويها، لكن الوضع تغير في العقود التالية فأغلب الناس يموتون في المستشفيات، ووسط أجهزة الرعاية الصحية الفائقة، وبين أمهر الأطباء، ورغم ذلك فإن حقيقة الموت لا يدركها الإنسان المعاصر، ويمشي في حياته بأمل عريض بأن الطب سيجد لها شفاء، وأمدا مديدا، وأيام أخرى تؤجل فناءه المحتوم.
ومادام الإنسان يحيا ضمن حدود وقيود لا مفر منها، فإن دور الطب بمؤسساته يقتصر على مساعدة الناس على الحياة والتعامل مع تلك القيود، ففي بعض الحالات في الشيخوخة قد لا يحتاج الطبيب إلى تقديم علاج، ولكن يحتاج إلى إعطاء ذلك الشخص مُسكن يخفف أوجاعه لحين قدوم الموت، وربما يكون ذلك أفضل شيء يُقدم للإنسان في تلك الفترة، لأن التدخل للعلاج يجعل الجسم الذي يتداعي من داخله، يتساقط بسرعة أكبر في حال أي تدخل، فجميع أجهزة الإنسان تستنفذ رصيدها في الحياة، وبالتالي تصبح تكلفة قبول الأمر الواقع أقل بكثير من المحاولات اليائسة لمغالبته.
الشيخوخة..نهاية بلا عناية
يؤكد “غواندي” أنه أثناء دراسته في كلية الطب لم يتعلم ما يتعلق بالتفاصيل التي يتعرض لها الإنسان في نهايةالحياة، وإنما تعلم كيف ينقذ الحياة، ولم يتعلم كيف يعتني بنهاية الحياة، إذ يحتاج الإنسان في تلك الفترة إلى العطف أكثر من العلاج. ولكن ما هي حيلة الطب أمام هذا الفناء؟
يؤكد “غواندي” أن تلك الحالة التي يتداعي فيها الجسد بكامل أجهزته في الشيخوخة يجد الطبيب نفسه في وضع العاجز، فالطبيب لا يملك شيئا يستطيع تقديمه، لذا يجب الاعتراف بأن الفناء هو جزء من العملية الطبية لا يمكن السيطرة عليها.
أما الشيخوخة فقد تغير مفهومها في الوقت الحاضر عن الماضي، ففي السابق كان الشيوخ أشبه ببيوت الخبرة ومصادر الحكمة والتجربة والمحافظين على القيم، لذا كانوا يحظون بالاحترام، وكان المسنون لا تزيد نسبتهم عن 2% وهو ما أعطاهم تميزا داخل المجتمعات، ولكن الأوضاع تغيرت فقد زادت نسبة المسنين في المجتمعات حتى إنها تصل في بعض الدول المتقدمة إلى ما يقرب من 20% مثل إيطاليا والمانيا واليابان، بل إن الصين وحدها يوجد فيها مائة مليون في مرحلة الشيخوخة، وفي ظل تغير أدوات المعرفة والتقدم أصبح صغار السن أكثر قدرة على التعاطي مع متطلبات العصر، وبدا المسنون أكثر جهلا بها خاصة في مجال الهواتف الذكية والانترنت، فأصبح التقدم في السن دليلا على الانفصال عن منجزات العصر عند الكثيرين.
أما على مستوى العلاقة بين المسنين وصغار السن، فقد كان غالبية المسنين يعيشون مع أحد أبنائهم يتلقون رعايته، ومع تزايد حركة السفر والآفاق الاقتصادية الجديدة أصبح المسنون يعانون من هجران أبنائهم، بل في ظل وجود معاشات التقاعد أصبح المسن يجد نفقته دون الحاجة للعمل بعد بلوغة سن المعاش، وأصبح غالبيتهم أكثر ميلا للعيش بعيدا عن أبنائهم طمعا في بعض الهدوء والسكينة بعيدا عن صخب الحياة وضغوطها وإزعاجها، والكثير من المسنين يفضلون “المودة عن بُعد”، وتشير الإحصاءات الأمريكية-مثلا- أن 60% ممن تجاوز الـ(65) من عمره كانوا يعيشون مع أبنائهم في بداية القرن العشرين، وأن هذه النسبة انخفضت إلى 15% عام 1975، واصبحت أقل بكثير في الوقت الحاضر، لذا أنشأ أحد المستثمرين الأمريكيين مدينة للمتقاعدين عام 1960 أسماها “مدينة الشمس” انطلاقا من رؤيته أن الناس في أواخر أعمارهم يرغبون أن يقضوا ما تبقى من حياتهم بلا صخب، من خلال العيش مع أقرانهم في السن خاصة وأن قدرات الإنسان تأخذ في التراجع بما فيها عقله وذاكرته التي تتخلص من كثير من أحمالها، ولا تميل إلى تلقي خبرات جديدة، وتكتفي بما حصلته وتظن فيه الكفاية، وهو ما اشار إليه الأديب “ماركيز” بأن “اجتماع الشيوخ مع الشيوخ يجعلهم أقل شيخوخة”.
ورغم تزايد الشيخوخة في المجتمعات والتي تصل إلى 20%، فإن طب الشيخوخة يشهد تراجعا واضحا، فالكثير من الأطباء لا يفضلون العمل مع المسنين، ولا يحبون العناية بهم، ربما لأن الطبيب يدرك في أعماقه أنه لن يستطيع إيقاف الموت، وأنه سيقف عاجزا أغلب الوقت أمام الانهيار في الجسد الإنساني في مرحلة الشيخوخة، وأن كل تدخل من الطبيب لوقف انهيار يتسبب في انهيارات صحية أخرى، كما أن بعض مشكلات الشيخوخة يعاني منها المريض على مدار عشرات السنين، وبالتالي يكون “الفشل” دائما هو حليف الطبيب، لذا هبطت أعداد أطباء الشيخوخة بنسة 25% في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، كما أن أكثر 97% من طلاب الطب في الولايات المتحدة لا يدرسون أي مقرر بعنوان أمراض الشيخوخة، وتعتبر مقولة “فيلب روث” في روايته “كل إنسان” أكثر تعبيرا عندما قال:”الشيخوخة ليست معركة، بل هي مذبحة”، أو كما تقول الأديبة الشيلية “مارثيلا سيرانو” أنه :ثمة شئ رائع واحد في الشيخوخة : لا أحد ينتظر منك شيئاً”.