الصبر هو الثبات، أو ضبط النفس، أو المكابدة، أو القدرة على تحمل المشاقّ والمَخاطر[1]. فالصبر إنما يكون مع العمل، وليس هو مجرد انتظار بلا عمل، ولولا ذلك لانقلب إلى رذيلة، ولم يكنْ ْفضيلة. وعرّفه الغزالي بأنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة[2]. والأول تعريف عام، والثاني تعريف ديني اصطلاحي، يتصل بتغلّب باعث الدين على باعث الشهوة. ولو عرّفه الغزالي بأنّه ثبات باعث العقل في مقابلة باعث الشهوة أو الهوى، لعاد تعريفه تعريفًا عامًا أيضًا.
وأصلُ الصبر في اللغة هو المنع والثبات والحبس، فالصبرُ حبس النفس عن الجزع ، واللسان عن التشكّي، والجوارح عن لطم الخدود وشقّ الثياب ونحوهما. وقيل: أصله الشدّة والقوّة، ومنه الصبر للدواء المعروف بشدّة مرارته. قال الشاعر:
الصبرُ مثلُ اسمِه مُرٌّ مذاقتُه *** لكن عواقبه أحلى من العسلِ
وقيل: أصله الجمع والضمّ، فالصابر يجمع نفسه، ويضمّها عن الجزع والهلع. والتحقيق أنّ الصبر يجمع المعاني الثلاثة: المنع، والشدّة، والضمّ[3]. ويبدو أن هذا الكلام خاص بالصبر على المصائب، ولا يمتدّ إلى الصبر على الأوامر، وعن النواهي. لكن يمكن تعديله بالنسبة للأوامر، فنقول بأنه هو حبس النفس عن الملل أو الضجر أو التبرّم … وبالنسبة للنواهي هو حبس النفس عنها …
أسماء الصبر
والصبرُ اسمٌ له من بين أسماء أخرى كثيرة، يختفي معناه تحتها.
فإنْ كان في مصيبة فهو الصبر (وضدّه الجزع والهلع).
وإنْ كان في حرب سُمّي شجاعة (ونقيضُه الجبن).
وإنْ كان في كظم غيظ وغضب سُمّي حلمًا (وعكسُه التذمّر).
وإنْ كان في نائبةٍ من نوائب الزمان سُمّي سعة صدر (وعكسُها الضجر والتبرّم).
وإنْ كان صبرًا على قدْر يسير من الحظوظ سُمّي قناعة (وضدّها الشراهة).
وإنْ كان صبرًا عن الشهوة سُمّي عفّة.
وإنْ كان صبرًا عن إجابة داعي الانتقام سُمّي عفوًا.
وإنْ كان صبرًا عن إجابة داعي الإمساك والبخل سُمّي جُودًا.
وإنْ كان صبرًا عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سُمّي صومًا …
وهذا يدلّ على ارتباط مقامات الإنسان كلّها بالصبر، من أوّلها إلى آخرها[4]. ويلاحظ أن الصبر لا يكون إلا في خير، وإلا لأمكن أن تنعكس هذه الأقوال، فيقال مثلاً: إنْ كان صبرًا عن إجابة داعي الجود سُمّي بُخلاً! وعندئذ يصبح الصبرُ رذيلة، مع أنّه في الإسلام فضيلة.
الصبر في القرآن
وقد ركّز القرآن على الصبر تركيزًا كبيرًا، فذكره في أكثر من 100 موضع، في معظم السور. وقرنه سبحانه بأركان الإسلام ومقامات الإيمان:
قرنه بالصلاة: (واستعينوا بالصبر والصلاة) البقرة 45.
وبالأعمال الصالحة: (الذين صبروا وعمِلوا الصالحات) هود 11.
وبالتقوى: (وإن تصبِروا وتتّقوا فإنّ ذلك مِن عزم الأمور) آل عمران 186.
وبالشكر: (لكلّ صبَّار شكور) إبراهيم 5.
وبالحقّ (وتواصَوا بالحقّ وتواصَوا بالصبر) العصر 3.
وبالرحمة: (وتواصَوا بالصبر وتواصَوا بالمرحمة) البلد 17.
وباليقين: (لما صبروا وكانوا بآياتنا يُوقنون) السجدة 24.
وبالصدق: (الصابرين والصادقين) آل عمران 17.
وبالتوكل: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) النحل 42.
وبالفلاح: (اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلّكم تُفلحون) آل عمران 200.
وبالجهاد: (ثم جاهدوا وصبروا) النحل 110.
وبالنصر: (إن يكنْ منكم عشرون صابرون يغلِبوا مائتين) الأنفال 65.
الصبر في الحديث النبوي
كما ورد ذكر الصبر في الحديث النبوي.
من ذلك قولُه: الصبرُ ضياء (صحيح مسلم 3/100).
وقولُه: ما أُعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر (صحيح البخاري 2/152، ومسلم 7/145).
وقولُه: الصبرُ عند الصدمة الأولى (البخاري 2/105، ومسلم 6/227).
وقولُه: مََن يتصبّر يُصبّره اللهُ (البخاري 2/152 و8/124، ومسلم 7/145).
وقولُه: المؤمنُ الذي يُخالط الناس ويَصبر على أذاهم أعظمُ أجرًا (ابن ماجه 2/1338، والترمذي 4/663، ومسند أحمد 2/43).
وقولُه: إنّ النصر مع الصبر (مسند أحمد 1/307).
قيل: أوحى اللهُ إلى داود: تخلّقْ بأخلاقي، فإنّ مِن أخلاقي أنّي أنا الصبور، والربّ تعالى يُحبّ أسماءَه وصفاتِه وظهورَ آثارها في عباده، فإنّه جميلٌ يُحبّ الجمال، عفوٌّ يُحبّ أهل العفو، كريمٌ يُحبّ أهل الكرم، عليمٌ يُحبّ أهل العلم، قويّ يُحبّ المؤمن القويّ، صبورٌ يُحبّ الصابرين، شكورٌ يُحبّ الشاكرين …[5].
أقوال الصحابة والتابعين في الصبر
قال عليّ رضي الله عنه: الصبرُ مَطيّة لا تكبو[6].
وقال أيضًا: الصبرُ مِنَ الإيمان بمنـزلة الرأس مِنَ الجسد، ولا جسدَ لِمَن لا رأسَ له، ولا إيمانَ لِمَن لا صبرَ له[7].
وقال ابن مسعود: الإيمانُ نصفان: نصفٌ صبرٌ، ونصفٌ شكرٌ[8].
وقال الحسن: الصبرُ كنـزٌ مِن كُنوز الخير[9].
وقال سليمان بن القاسم: كلّ عملٍ يُعرف ثوابه إلا الصبر. قال تعالى: (إنّما يُوفّى الصابرون أجرَهم بغيرِ حسابٍ) الزمَر 10، أي كالماء المنهمر (عدة الصابرين 74 و97).
أقوال العلماء في الصبر
قال الغزالي: ما مِن قربةٍ إلا وأجرُها بتقديرٍ وحسابٍ إلا الصبر[10].
وقال ابن القيم: إنّ الله سبحانه جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وجُندًا لا يُهزم، وحصنًا حصينًا لا يُهدم ولا يثلم، فهو والنصر أخوان شقيقان، فالنصر مع الصبر … (عدّة الصابرين 6).
وقال ابن عاشور: الصبرُ مِلاك الفضائل، فما التحلّم والتكرّم والتعلّم والتقوى والشجاعة والعدل والعمل في الأرض ونحوها إلا مِن ضُروب الصبر (تفسير ابن عاشور 1/478).
أنواع الصبر
وللصبر أنواع، فهناك صبرٌ على المأمور، وصبرٌ عن المحظور، وصبرٌ على المقدور[11]. قال عليّ رضي الله عنه: الصبرُ ثلاثة: صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية، وصبرٌ على المصيبة. وبما أن الصبر فضيلة لا رذيلة، فلا يمكن أن يقال: صبرٌ عن المأمور، أو صبرٌ عن المحظور.
وينقسم الصبر أيضًا بحسب اختلاف أحوال الإنسان إلى: صبر على السرّاء، وصبر على الضرّاء.
قال رسول الله ﷺ: عجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كلّه خير (…)، إنْ أصابته سرّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضرّاءُ صبر، فكان خيرًا له (صحيح مسلم 18/125).
قال عبد الرحمن بن عوف: ابتُلينا بالضرّاء فصبرنا، وابتُلينا بالسرّاء فلم نصبر.
فابتلاء السرّاء أشدُّ وأصعبُ من ابتلاء الضرّاء، لأنّ الأول يتمّ باختيار الإنسان، والآخر بغير اختياره.
وينقسم الصبر بحسب اختلاف الأطوار، فهناك صبرٌ قبل العمل، وصبرٌ أثناء العمل، وصبرٌ بعد العمل (عدّة الصابرين 66).
وهذا يشمل: التخطيط للعمل، وتنفيذ العمل، واختبار العمل، وإخضاعه للتحكيم والمراقبة والمحاسبة.
الصبر لا زال مِنَ الحقائق القرآنية الغائبة عن علوم الاقتصاد والتنمية حتى يومنا هذا
درجات الصبر
والصبرُ درجاتٌ، أشقُّها على النفس: صبرُ السلطان عن الظلم والطغيان (الإمام العادل)، وصبرُ الغنيّ عن اللذات والشهوات، وصبرُ الشابّ عن الفاحشة.
وهؤلاء الثلاثة داخلون في السبعة الذين يُظلّهم اللهُ في ظلّه يومَ لا ظلّ إلا ظلّه (متفق عليه).
وتختلف العقوبة باختلاف مشقّة الصبر، ولهذا شُدّدتْ على الملِك الكذاب، والشيخ الزاني، والفقير المُختال (المُتكبّر)، لأنّ صبرهم عن هذه المحرّمات (الكذب، الزنا، الخُيَلاء) أسهلُ من صبر غيرهم عنها. (عدّة الصابرين 71).
لا غنى عن الصبر
وهكذا فإنّ الإنسان لا يستغني عن الصبر، في كلّ أحواله وأعماله[12]، سواء أكانت هذه الأعمال دينية أم دنيوية، بدنية أم ذهنية، حربية أم سلمية، وسواء أكان صاحبها ذكرًا أم أنثى، مؤمنًا أم غير مؤمن، تاجرًا أم صانعًا أم زارعًا، حاكمًا أم محكومًا، غنيًا أم فقيرًا، رئيسًا أم مرؤوسًا، مخططًا أم منفذًا، مدنيًا أم عسكريًا، عالمًا أم متعلمًا، مجدّدًا أم مقلدًا، قارئًا أم كاتبًا أم باحثًا أم رجل مالٍ وأعمال …
لنرفع طاقة الصبر
نعم للصبر حدود، لكن على الفرد أن يرفع طاقة صبره باستمرار، فهذا من باب تعظيم الكفاءة العلمية والعملية، وذلك بالإرادة والدأب والعمل والمثابرة والتعلّم والتدرّب والمشورة والمنافسة والمسابقة والجهاد. فالنفس فيها قوّتان: قوّة إقدام، وقوّة إحجام، وحقيقة الصبر أن يجعل الإنسانُ قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفع (صبر على الأوامر)، وقوة الإحجام إمساكًا عما يَضرّ (صبر عن النواهي)[13].
والصبرُ إنما يكون بالعمل والكفاح وعُلوّ الهمّة وطلب المعالي، لا بالانتظار والكسل والاسترخاء والركون والإخلاد إلى الراحة. واعلمْ أن الإيمان يقوّي الصبر، فمن قلّ إيمانُه قلّ صبرُه. والسعي وراء الحقائق أمرٌ ثقيل، والمحنُ تلازمه، فلا بدّ من الصبر لتحقيق الفلاح والنجاح، ومَن صبر ظفر.
أؤكد أنّ الصبرَ حقيقة علمية ثابتة، وليس مجرّد نظرية علمية قابلة للدحض. وهذه النظرية تصلح للاقتصاد الإسلامي والوضعي معًا، ذلك لأنّ الصبر قيمة مشتركة بين المؤمن وغير المؤمن
أين قيمة الصبر في التنمية؟
وهذه الدعوة إلى الصبر وعلى هذه الصورة، لم أجدها في أي كتاب آخر غير كتاب الله، بل ربما كانت غائبة تمامًا عن كتب الاقتصاد والتنمية. فهل نستطيع أن نقول إن الصبر يُعيد النعم ويُبيد النقم، وأنه مفتاح الفرج بعد الشدّة، ومفتاح التقدّم بعد التخلّف؟ وإذا صبرنا على الأوامر، وصبرنا عن النواهي، وصبرنا على الأقدار، فلماذا لا نتقدّم؟
والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر. قال تعالى على لسان يعقوب: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) يوسف 86، وقال رسول الله ﷺ: اللهمّ إني أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهَواني على الناس[14].
فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، إنما تنافيه شكوى الله. قال الشاعر:
وإذا عَرَتْك بليـّة فاصبرْ لها *** صبرَ الكريـم فإنّـه بـك أعلمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ آدمَ إنّما *** تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ[15]
ومَن اعتاد الصبر هابه عدوّه، ومن عزّ عليه الصبر طمع فيه عدوّه، وأوشك أن ينال منه غرضَه (عدّة الصابرين 25).
وكما أنّ على الفرد أن يرفع طاقة صبره، كذلك على الأمة أن ترفع طاقة صبرها على الدوام، من أجل تحقيق القوة والفلاح والنصر والإنجاز والتقدم في العلم والبحث العلمي، فمن لا صبرَ له لا عونَ له.
وهذا التركيز في القرآن على الصبر هو واحد من وجوه الإعجاز القرآني في تحقيق القوة والنهضة، والتحلّي بأخلاقيات البحث والرقيّ، وخلق مناخ ملائم لتكوين عقلية فردية وجماعية للنهوض.
لقد أطلتُ الكلام في الصبر لأنّ الله ذكره في كتابه ما يزيد على 100 مرة، ولأنّ الله تعالى يُحبّ الصبر والصابرين، فعلينا أن نُحبّ ما يُحبّه الله، ولأنّ الصبر مِنَ القيم والآداب والأخلاق المتصلة بالتنمية والتقدّم والتنافس مع الأمم الأخرى، في مجال العلوم وتطبيقاتها المختلفة. قال تعالى: (والعصر إنّ الإنسان لفي خُسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصَوا بالحقّ وتواصَوا بالصبر). قال الإمام الشافعي: لو فكّر الناس كلّهم في هذه الآية لوسعتْهم. (عدّة الصابرين 78).
الخلاصة
فإنّ وجه الإعجاز في هذه المسألة هو: وجوب التركيز على الصبر بنسـبة معبّرة عن نسبته في القرآن، وضرورة نقل هذه الفضيلة إلى كتب الاقتصاد والتنمية، وإعطاؤها ما تستحقّ من قيمة، فنظرياتُ التنمية نظرياتٌ يغلب عليها أنها متشائمة، لا تبعث الأمل ولا التفاؤل ولا الإقدام ولا الشجاعة ولا الحافز في نفوس المطّلعين عليها. إنّ مثل هذه الأخلاق، كالصبر وغيره، هي كالروح بالنسبة للجسد.
ولئنْ كانت هناك حقائقُ قرآنية لم تكنْ مفهومة وقت النـزول، ثم ساعدتْ على فهمها بعد ذلك الحقائقُ العلمية المكتشفة، إلا أن الصبر لا زال مِنَ الحقائق القرآنية الغائبة عن علوم الاقتصاد والتنمية حتى يومنا هذا.
إنّ هناك نظرياتٍ تنموية متعددة، منها نظرية القيم المعرقِلة للتنمية، لكن ليس هناك للأسف نظرية للقيم المسهّلة للتنمية، ولعلّ نظرية الصبر تستحق أن تُفرد بالبحث، من بين هذه النظريات الأخيرة.
وإذا كان يُؤخذ علينا، في بعض الأحيان، أننا نحن المسلمين في هذا العصر كثيرًا ما ننتظر النظريات العلمية الجديدة لكي نفسّر بها القرآن، ونُضيف إلى إعجازه وجهًا آخرَ من وجوهه، إلا أننا في نظرية الصبر، تمكنّا بحمد الله أن نستمدّها من التفسير لكي نُضيفها إلى العلم، لا أن نستمدّها من العلم لكي نُضيفها إلى التفسير.
وإني أستطيع أن أؤكد أنّ الصبرَ حقيقة علمية ثابتة، وليس مجرّد نظرية علمية قابلة للدحض. وهذه النظرية تصلح للاقتصاد الإسلامي والوضعي معًا، ذلك لأنّ الصبر قيمة مشتركة بين المؤمن وغير المؤمن، وإنْ كانت قيمته أعلى لدى المؤمن. وهذه النظرية لم تصل إليها علوم الاقتصاد والتنمية حتى الآن!
يمكن تطوير هذا المقال إلى بحث يتضمن فصلاً عن الصبر في علم النفس، وفصلاً ثانيًا عن الصبر في علم الأخلاق (الوضعي)، وفصلاً ثالثًا عن الصبر في الدين الإسلامي، وفصلاً رابعًا عن الصبر في الاقتصاد والتنمية.