ما زلت أتذكر ذلك الطابور المدرسي الصباحي حيث نصطف وأمامنا المعلمون لكي نستمع إلى (نشرة أخبار المدرسة) قبل أن يدق الجرس مؤذنا بدخول الفصول الدراسية، كنا نتناوب على قراءى النشرة نحن الثلاثة كصحافة مختارة لمدرستنا الصغيرة، يخيل إلي أحيانا أن لغتنا حينها كانت أسلم من لغة كثير من صحافتنا اليوم، وأتذكر في تلك الأيام الجميلة أن أحد مذيعي المدرسة نصب اسما وقع بعد حرف (في) وليس ممنوعا من الصرف، فنهره أحد الأساتذة الظرفاء قائلا: كيف تنصبه و(في) تجر القارات.
وأيم الله إن اللحن ليؤلم الأذن ويحزن القلب، وهو نمط من الضلال المبين كما في الأثر أن النبي ﷺ سمع رجلا لحن فقال لأصحابه: “علموا صاحبكم فقد ضل”، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقيل الأمراء إذا لحن أحدهم ويوصيهم بالفصاحة.
ولدت الصحافة العربية في باحة الأدب واللغة، وانتسب إليها أول أمرها نخبة المجتمع وخيرة أبناء الأمة، لذلك ما تزال الصحف الأولى مراجع علمية معتبرة لما تحويه بين دفاتها من معارف ولجمال أسلوب كتابها وعراقته في لغة الضاد، وما يزال المذيعون الأوائل ملء السمع والبصر تستعاد برامجهم وتقاريرهم لجمال لغتها وسلامتها من اللحن القبيح.
أما اليوم فلا يمكنك أن تواصل الاستماع دقيقة واحدة دون أن يرفس الصحفي سيبويه في قبره ويركل جمجمة ابن عصفور مرات عديدة، ومن غرائب ذلك أني سمعت صحفيا يحاور لغويين في برنامج ثقافي حول ضعف مستوى المثقفين العرب في الللغة العربية، وكان المسكين ينصب المجرور ويرفع المنصوب ويرتكب أعتى الجرائم اللغوية في حق الصرف وأبنية الكلمة، دون أن يشعر أنه هو نفسه داهية طامة صاخة.
قال الأقدمون: “لا تأخذ العلم من صُحُفي ولا القرآن من مُصحفي”.، والصحفي عند الأقدمين هو الذي حصل علمه بقراءة الصحف المكتوبة دون أن يثني ركبيته في حلقات العلم فيسمع من أهله، وهو ـ في غالب أمره ـ يكون ذا أخطاء وأغاليط، لأن كاتب الصحيفة قد يغلط في النقل فيعتمد القارئ على ما هو مكتوب فيضل سواء العلم الصحيح، ومشهورة قصة صاحب (الحبة السوداء) التي قرأها (الحية السوداء) فأهلك نفسه ومن معه.
ورغم اختلاف دلالة الصحفي عند الأقدمين والصحفي أو الصحافي عندنا اليوم، إلا أن الوصية تطالهما معا، فصحافتنا اليوم ـ إلا من رحم ربك ـ ضعيفة اللغة مهلهلة الأسلوب ضاوية المضمون، وهي على ما تبذل من جهد لتثقيفنا وإعلامنا بما يموج به العالم من أحداث وأخبار إلا أنها تشكل ـ في أغلبها ـ خطرا على أمننا اللغوي بل على مجمل هويتنا ووجودنا وتميزنا الحضاري.
لا جرم أن هناك صحفيين سليمي اللغة والأسلوب بل لهم باع طويل في لغة الضاد نحوا وصرفا وأساليب، لكنهم ثلة قليلة إذا عدوا مع آخرين من منتحلي الصفة والسمة لا يحصيهم عد ولا يملكون من مؤهلات المهنة سوى قدر قلامة ظفر، وقد ضج الفضاء السمعي والبصري بأخطائهم الفاحشة التي لا تقبل تأويلا ولا توجيها.
إن على الحكومات أن تعلم أن الأمن اللغوي أحد ضمانات الهوية والوجود والمصير، ولا أمل لأمة لا تهتم بلغتها ولا آدابها، وبوابة ذلك إصلاح قطاع الصحافة سمعية وبصرية ومكتوبة إذ هي التي تدخل بيوتنا دون استئذان وتوجه وتعلم أبناءنا وبناتنا دون اختيار منا.