إن الصيام فضائله ومنافعه أكثر من أن تحصى”ولو لم يكن فيه إلا التشبه بالملائكة والارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالروحانيات المجردة لكفى به فضلا ومنقبة”(1). ولذلك كان من العبادات الملازمة للبشرية على مر تاريخها، لم يتغير أو يتدبل بتغير أحوالها، قال الله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 183).

يقول علي رضي الله تعالى عنه: إن الصوم عبادة قديمة أصلية، ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم، من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم “(2).

وحتى الذين لا يدينون بدين سماوي كان عندهم صيام ـ ربما تسرب إليهم من رسالات التوحيد التي لم تخل منها أمة من الأمم ـ كالبراهمة والبوذيين في الهند والتبت ـ ومن طقوسهم في نوع منه الامتناع عن تناول أي شيء حتى ابتلاع الريق لمدة أربع وعشرين ساعة، وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحا من الشاي”(3).

وكان الصوم ـ كما ذكر الشيخ محمد عبده ـ معروفا عند قدماء المصريين في أيام وثنيتهم، وانتقل منهم إلى اليونان، فكانوا يفرضونه لا سيما على النساء، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصيام.

كما كان الصيام معروفاً عند العرب قبل الإسلام، فقد روى البخاري بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن قريشاَ كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله بصيامه حتى فرض رمضان، فقال رسول الله بعد ذلك:” من شاء فليصمه، ومن شاء أفطره”(4).

ولعظم شأنه اختص الله سبحانه وتعالى نفسه به دون سائر الأعمال التعبدية، ففي الحديث القدسي أنه عز وجل قال:«كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه. (5).

وجعل الله عز وجل له بابا خاصا في الجنة يسمى باب الريان لمن يكثرون منه، ويجعلونه عبادتهم المفضلة، فلكل مسلم عبادة محببة يكثر منها غير ما افترض عليه، فمنهم من يكثر من صلاة النافلة، ومنهم من يكثر من صدقات التطوع، ومنهم من يكثر من الذكر أو الحج أو العمرة أو غيرها من أعمال الخير، فلا يدخل من هذا الباب باب الريان غير من جعل عبادته المفضلة الصيام.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: “من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة، دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة، دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان “(6).

ولا عجب أن يكون للصيام ذلك الفضل، فهو كما قال الشيخ محمد عبده ـ رحمه الله ـ”حرمان يعظم بِهِ أَمر الله في النَّفس، وتعرف بِهِ مقادير النعم عِند فقدها ومكانة الإِحسان الإلهي فى التفضل بها”(7).

كما أنه سر بين العبد وربه؛ ولذا كان من العبادات التي اؤتمن عليه الناس، فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم وأن يأكل سرا ويشرب دون أن يعلم بأمره أحد غير الله سبحانه وتعالى، بخلاف الصلاة والزكاة والحج.

أهداف الصيام وفوائده

هذا ومن بين أهداف الصيام وفوائده ومنافعه المتعددة لدى المسلم تحقيق الاقتصاد في المعيشه وزيادة الإنتاج، فالصيام يدرب ويعود الإنسان على الاقتصاد في المعيشة والنفقة، فالمسلم يقضي شهرا كاملا (في الفرض فقط ) لا يتناول غير وجبتين في اليوم، وجبة الإفطار ووجبة السحور، وبذلك يوفر ثلث طعامه على الأقل لمن يتناول ثلاث وجبات يوميا، فتقل نفقته على الطعام بنسبة الثلث، فإذا كانت نفقة الأسرة على الطعام شهريا 6 آلاف ريال أو دينار أو ريال أو درهم أو جنيه، فإنها تصير مع الصيام 4 آلاف فقط، فإذا ما أخرج القادر زكاة فطره زاد مقابل ذلك رزق الفقير الذي يأخذ صدقة الفطر، كما يزاد رزق الفقير من خلال طعام الإفطار الذي يقدم له يوميا من أهل الخير.

والصائم إذا اعتدل في إفطاره ومع توالي أيام الصيام تضيق معدته، وبالتالي يكفيه المعتدل من الطعام بعد شهر الصيام حتى يشبع ويشعر بامتلائها، وأما إن تعود الشره في تناول الطعام والشراب بعد فطره فتعاود معدته اتساعها، فلا يفيده الصيام في الاقتصاد المعيشي شيئا.

ولقد كانت وجبات النبي وأصحابه والصالحين من بعدهم عند الإفطار لا تختلف عن باقي الوجبات الأخرى، فلا يزاد عليها غير البدء بتناول التمر، ن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء (8).

ولم يرد عنه الزيادة في الأكل عند إفطاره عما هو معتاد في حياته، ولم يرد عنه أن خالف نهجه المتبع “ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه” (9).

وأرشد الناس إلى عدم المبالغة في إكثار الطعام في حضرة الضيوف (وتكثر العزومات في رمضان) لأن”طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية”(10).

وكان صحابته قدوة في هذا الأمر، فكانوا في بداية تشريع الصوم وأمور المعاش ضيقة بالمدينة المنورة يشرك الغني الفقير في إفطاره، فهذا واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول: حضر رمضان ونحن في أهل الصفة فصمنا، فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل السعة فأخذه فانطلق به فعشاه. (11).

وقصة جابر بن عبد الله الشهيرة يوم الخندق منهاجا ومرشدا لمن يريدون أن يجمعوا بين فضيلة الكرم والعزومات في رمضان وبين الاقتصاد المعيشي، فقد ذكر رضي الله عنه أن زوجته قد صنعت طعاما يكفي لبضعة أفراد فقط، وأوصته أن يبلغ رسول الله بذلك، فأحضر رسول الله في زمرة ضيافته العشرات ممن كانوا يعملون في الخندق، فأكلوا جميعا حتى شبعوا من ذلكم الطعام الذي كان من منظور الزوجة لا يكفي غير بضعة رجال.

وقد نهى عن إلقاء الفائض من الطعام مهما قلت قيمته، وما أكثر ما يحدث ذلك من المسلمين الآن في موسم الصيام، فقد روى ابن ماجة في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل النبي البيت فرأى كسرة ملقاة فأخذها فمسحها ثم أكلها وقال:” يا عائشة أكرمي كريما، فإنها ما نفرت عن قوم قط فعادت إليهم “(12).

وهذه اللقمة التي رآها النبي لو رآها الصائم في وقت جوعه لأحس بقيمتها، ولتحرك فيه ما تحرك في نفس النبي مهما كان ثراؤه وغناه؛ لأن الإنسان لا يقدر النعمة حق قدرها إلا عند فقدانه لها أو عند احتياجه إليها.

هذا ومن أثر الصيام في الاقتصاد المعيشي أيضا أن الصائم يوفر ثمن المشروبات المتنوعة التي كان يتناولها خلال نهاره أثناء عمله أو راحته دون حاجة إليها، وأكثرها مبالغ فيه ويلجأ إليها كثير من الناس لدفع الملل أو السأم أو التلسية كحال من يجلسون على المقاهي والنوادي، وقد يصل الأمر ببعضهم أنه يحتسي حسوات من الكأس ثم يدعها كما هي ليهدر بقية ما فيها، ولا بأس بالترويح عن النفس وذهاب الشباب والرجال لتلك النوادي والمقاهي والمتنزهات، وتناول المشروبات المباحة ولكن باعتدال، فالبعض يعود لبيته منها وقد تناول من كئوس القهوة والشاي من سبع إلى عشر، وهذا الإسراف في الشراب مضر بالصحة أي ضرر، حيث يجلب الإسراف في القهوة والشاي مرض التهاب المعدة وارتجاع المريئ الذي يعاني منه أكثر الناس الآن.

كما يسبب الإسراف في المشروبات التي تحتوي على الكافيين أمراض القلب وغيره؛ فمدمنو الكافين يرتفع احتمال إصابتهم باضطراب ضربات القلب، الأمر الذي قد يستعجل الوفاة المفاجئة، والقهوة ترفع ضغط الدم، فضلًا عن الكوليسترول والهوموسيستئين؛ وهما عاملا خطر للإصابة بأمراض القلب( من مقال بعنوان: أضرار الإسراف في القهوة، منشور بموقع طبيك ).

ومن أثر الصيام في الاقتصاد المعيشي أيضا أنه يجعل الإنسان المدخن يمتنع عن التدخين فترة النهار، وبذلك يوفر جزءا كبيرا من ثمن التبغ الذي يدخنه، وهذا يعد مبلغا وفيرا في البلاد منخفضة الدخل، حيث ينفق الموظف أو العامل فيها قرابة 20% من دخله اليومي على التبغ أو أكثر، وقد يكون الصيام فرصة للإقلاع عن التدخين تماما؛ فتخف أعباء تكاليف المقلع بتلك النسبة20 % ليستفيد بها في أمور أخرى، فإذا علمنا أن نسبة المدخنين أو متعاطي التبغ في العالم حسب تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر عام 2020 م قد بلغت 22.3% من سكان العالم ظهر لنا قدر وعظم المبلغ الذي من الممكن أن يوفر في عالمنا الإسلامي لو استفدنا من رمضان في الاقتصاد في التدخين .

كما أن الصيام يولد لدى الإنسان قوة الإرادة ويعينه على كبح جوامحه في إشباع متطلباته غير الضرورية أو الأساسية، فالصائم في فترة صيامه يحرم حتى من قطرة المياه الواحدة فيصبر، وبالتالي يكون بعد الصيام أملك لنفسه وأقدر على التحكم في اقتصاد معيشته. كما أن الصيام يعد علاجا طبيعيا دون تكلفة لكثير من الأمراض(وليس كلها فبعضها يزداد بالصوم) مما يساهم في الاقتصاد المعيشي، وذلك بتوفير الأموال الباهظة التي تنفق في أثمان الأدوية، ولذلك أقامت بعض الدول الأوروبية كألمانيا وغيرها مستشفيات خاصة لا تعالِج إلا بالصوم على الطريقة الإسلامية، وقد أثبتت هذه الوسيلة فعاليتها، ممّا يسهم في تخفيض النفقات والأموال المنفقة على العلاجات والتداوي والتشافي، وبالتالي تقليص الأعباء المادية.

والصيام فضلا عن توفيره في نفقة الطعام والشراب والدخان والأدوية وغيرها يزيد الإنتاج على غير ما يعتقد الكثيرون، وذلك عن طريق زيادة وقت العمل الذي كان يهدر في إعداد وجبة الغداء وتناولها، أو يهدر في الانشغال عن العمل بالمشروبات التي تشرب، خاصة عند الموظفين، وذلك بعد أن تفشى مرض إضاعة الوقت في تناول الطعام والمشروبات لدى الموظفين في العالم العربي، فقد ترى الموظف يذهب إلى عمله في الصباح، وقبل أن يشرع في عمله المكلف به يذهب لتناول طعامه وشرابه في وقت هو ليس له، وإنما للمصلحة التي يعمل فيها، وقد يذهب إليه المواطن لقضاء مصلحته تاركا عمله وشغله، فيحبسه أمام عتبات مكتبه حتى يفرغ من أكله وشربه، فيجمع بين إضاعة وقته ووقت المواطن الذي يقف بباب مكتبه.

ولذا كان من فائدة الصيام المحافظة على هذا الوقت المهدر، فإذا ما استفاد الموظف الصائم من صومه التقوى صار ذلك ديدنا له؛ فيكون حريصا بعد رمضان على وقته ووقت المصلحة التي يعمل فيها، ووقت المواطنين الذين يترددون عليها.

والصيام يزيد من تركيز الإنسان ونباهته فيجعله قادرا على اتقان عمله، وأكدت دراسة أعدها باحثون بجامعة لوفان الكاثوليكية وأجريت تجاربهم على 20 من مسلمي بلجيكا أن الصيام له تأثير إيجابي على التركيز والذاكرة القصيرة المدى وعمليات التنسيق بين اليد والعين (13).

وحتى في الأعمال التي يظن أنها شاقة، أحيانا يكون أداء الإنسان وهو صائم أفضل، فقد كان الفلاحون في القرى المصرية في العقود السالفة قبل أن تتبدل أحوالهم يخرجون لأعمالهم بعد صلاة الفجر مباشرة ويعودون قبيل الظهيرة، وقد أتموا كل ما يريدون من عمل قبل أن تضعف قواهم، ثم يقضون بقية أوقاتهم في الأعمال الخفيفة التي لا تحتاج إلى القوة التي تحتاجها حراثة الأرض وفلاحتها.

ولذلك قال الشاطبي رحمه الله: إن الصيام لا يزيد الجسم إلا قوة، وإن ظهر للناس أن فيه الضعف (14).

والدليل على ذلك أن نبي الله داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يعيقه ذلك عن مهامه وأعماله، فقد قال نبينا ”: إنه كان يصوم يوما يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى”(15) يقول الشاطبي معلقا على ذلك” تنبيها على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء لعدو فيفر، ويترك الجهاد في مواطن ضعفه” (16).

والصيام يساعد العامل أو الموظف على إتقان عمله وعدم التهاون فيه بعد أن يولد لديه صفة المراقبة والخشية من الله عز وجل وحده، فلا يحتاج عليه رقيب من بني جنسه، ولا يفكر في التقاعس والتكاسل عن عمله إذا فقد الرقيب.

فاللهم أعنا جميعا على صوم شهرك المبارك صوما يرضيك؛ فترفع به موازين حسناتنا يوم القيامة، ويعود علينا بالنفع في دنيانا.