الرقمية باتت جزءا من الحياة اليومية لغالبية سكان الأرض، فأعادت تشكيل الحياة الإنسانية، وفق أسس ومعايير تختلف عما كان عليه البشر قبل ذلك، فأثرت في العلاقات الاجتماعية، وكان الطلاق من أهم ما تأثر بالرقمية، فقد خلقت أسبابا جديدة تحرض عليه وأضحى الطلاق في العصر الرقمي سببا إضافيا في زيادة نسب الطلاق عالميا، وقبعت الرقمية خلف الكثير من أسبابه، وكان ما ينشره أحد الزوجين على وسائل التواصل الاجتماعي، ذريعة للطرف الآخر للجوء للطلاق.

زيادة في الطلاق

تؤكد الاحصاءات أن نصف حالات الزواج تنتهي بالطلاق، في كثير من الدول والمجتمعات، ففي الولايات المتحدة، تؤكد الاحصاءات أن 41% من الزيجات الأولى تنتهي بالطلاق، ومعدل الطلاق اليومي يتجاوز الألفي حالة، وأن 81% من المحامين الأمريكيين يلجئون إلى مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك لجمع الأدلة المتعلقة بقضايا الطلاق، وينظر هؤلاء المحامون إلى مواقع التواصل الاجتماعي ككنز لجمع المعلومات، التي تبرر الطلاق، كما أن الكثير من الأزواج والزوجات يبحثون في صفحات شركائهم، لجمع أدلة تعطيهم الذريعة للطلاق.

وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مفتاحا للولوج لساحات المحاكم طلبا للطلاق، وهو ما يعني أن الرقمية أحدثت اختلالات في التفاعل بين الأزواج، فأصبحت حاضرة وفاعلة في احتدام الخلاف الزوجي، ففي المجتمع الأمريكي لوحظ أن 45% من الأزواج الذين أبلغوا عن خلافاتهم الزوجية، كان السبب هو مواقع التواصل الاجتماعي.

والواضح أن الرقمية عززت تآكل الثقة بين الأزواج، بعدما أصبح كل طرف أشبه بالكتاب المفتوح لصاحبه، وربما بدافع إخفاء الممارسات غير الجيدة لجأ الكثير من الأزواج لإخفاء حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وحجبوا أزواجهم عن الدخول إلى صفحاتهم، للحفاظ على سريتهم، إلا أن إحاطة صفحاتهم بتلك السرية أثار شك وريبة الطرف الآخر، فنشب الخلاف، الذي تطور إلى الطلاق.

والحقيقة أنه كلما ازدادت الاعتمادية على وسائل التواصل الاجتماعي، كلما زاد احتمال الطلاق، ففي الولايات المتحدة خلصت دراسة أن وسائل التواصل الاجتماعي مسئولة عن حالة طلاق من كل ثلاث حالات طلاق، وهذا مؤشر يتقارب مع بلدان كثيرة في العالم، في ظل تشابه التأثيرات الرقمية على الإنسان.

فالرقمية صرفت جزءا من اهتمام الأزواج عن بعضهم البعض إلى الانغماس في العالم الافتراضي، وتكوين صداقات وعلاقات، وإنفاق أوقات الفراغ، وساعات كثيرة من اليوم في تفاعلات على تلك المواقع، دون الاهتمام بالزوج أو الزوجة، وهو ما أوجد فجوة تتسع بمرور الوقت بين الأزواج، ليصبح قرار الطلاق، قرارا يُتخذ بأدنى قدر من التفكير المتأنى أو حتى إدارك لعواقبه، وذلك لأن الانفصال تم في النفس والوجدان قبل أن يُتخذ كاجراءات شرعية أو قانونية.

ومن ناحية أخرى، فإن التحول الملحوظ في سوق العمل، زاد من الوظائف المرتبطة بالخدمات، والمعتمدة على الرقمية في متابعة الأنشطة أو التفاعل مع العملاء، وهو ما حال دون تحقيق انقطاع بين وقت العمل ووقت المنزل، وبات العمل في المنزل يبتلع كثيرا من الوقت المخصص للأسرة، وتحول المنزل إلى ساحة للعمل، حتى في وقت الطعام والعطلة والراحة، ومن ثم فقدت البيوت خصوصيتها في السكن والطمأنينة، وهذا خلق مسافات وحواجز بين الأزواج، وفراغ عاطفي ووجداني يصعب إشباعه في مؤسسة الزواج، لذ كان الطلاق مخرجا من هذه الحالة.

مجال للانحراف

الرقمية وفرت لبعض الأزواج مجالا للانحراف بعيدا عن مؤسسة الزواج، فسهلت العلاقات المحرمة، ظنا باستحالة كشفها، ومن ناحية أخرى صرف الكثير من الأزواج جهدهم في مراقبة الطرف الآخر للتأكد من نزاهته، وتشير إحصاءات أن هناك 27% من الأشخاص يراقبون أزواجهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الانحراف، وتلك المراقبة قادت إلى تآكل الثقة بين الأزواج، وبات كل طرف ينظر للآخر نظرة ريبة وشك، فاستحالت العشرة الطيبة، وبات الطلاق هو المخرج من تلك الشكوك والصراعات.

وتشير إحصاءات أن 20% من حالات الطلاق، كان الفيسبوك عاملا حاسما في اتخاذ هذا القرار المؤلم، ووجدت دراسة أمريكية عام  2016 أن موقع تويتر كان مسؤولا عن 20% من حالات الطلاق، واعترف 52% من الأزواج المشاركين في أحد الاستطلاعات الأمريكية أن مواقع التواصل الاجتماعي كانت مسئولة بشكل مباشر عن الشجار بين الأزواج، وأن 17% يشعرون بالغيرة والغضب من مشاركة الطرف الآخر على مواقع التواصل الاجتماعي ومشاركته بالصور، وتعليق الأصدقاء عليها، وهو ما يسبب تصاعد الخلاف الزوجي.

وفي بريطانيا اعترف 68% من محامي الطلاق بأنهم يعانون من زيادة حالات الانفصال الناجمة عن مواقع التواصل الاجتماعي، ووصف البعض دور الرقمية بأنه “دور خبيث” في العلاقات الاجتماعية في المجتمع الحديث، لذا لم يكن غريبا في بريطانيا أن يعترف 61% من المحامين المختصين في قضايا الطلاق أنهم يجمعون الكثير من أدلتهم من مواقع التواصل الاجتماعي ومن محادثات الواتساب، لكن الأغرب أن 7% من الأزواج لقوا حتفهم بسبب قضايا الطلاق المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما ينبه إلى تأثير الرقمية على الجانب العاطفي في الزواج.

الطلاق وشبكات التواصل الاجتماعي

وأرجعت دراسة التأثير السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي على الزواج وزيادة حالات الطلاق إلى أن الاستخدام المفرط لأحد الزوجين لمواقع التواصل الاجتماعي يؤدي إلى التبعية أو الاستخدام القهري، إذ يصعب على الشخص الابتعاد عن تلك المواقع، ونجم عن ذلك مشكلات نفسية واجتماعية بين الأزواج، وتشير دراسة أجريت من سنوات أن 350 مليون مستخدم للفيسبوك يعانون من اضطراب ناجم عن إدمان الفيسبوك، وهؤلاء يهملون حياتهم الزوجية في أغلب الأحيان، بسبب الانشغال النفسي والعقلي بالعالم الافتراضي، كما أن الحرمان من الفيسبوك يؤدي إلى تعكر المزاح وحدة التعامل، وتلك أعراض للإدمان.

من ناحية أخرى فإن الرقمية فتحت الشخص على عوالم متنوعة، وتجارب إنسانية متعددة، ومنحته الكثير من الصور التي يتم انتقاء بعضها بعناية لتعبر عن الابتهاج والنضارة، وهو ما أوجد مقارنات من الأزواج لشركائهم وبين ما يشاهدونه، فنشأت حالة من عدم الرضا عن العلاقة الزوجية، ورغبة مُلحة في الانتقال منها إلى العالم الافتراضي بإغوائه وإغرائه وجاذبيته ظنا من الشخص أن ذلك هو الحقيقة وليس لحظة عابرة تم اقتناصها ونشرها.

ومع تقدم الرقمية لم تعد تلك الاحصاءات أرقام تثير الاستغراب والاستهجان، بل يتوقع أن تزيد هذه النسب مع زيادة مشاركة الأزواج في العالم الرقمي والانغماس فيه بشكل كبير، لتتحول الرقمية إلى عنصر تدميري لأهم مؤسسة أنشئها الإنسان على الأرض، وهي مؤسسة الأسرة المرتكزة على الزواج ، فالفتنة بالعالم الرقمي مزلزلة وليست حدثا عابرا في تاريخ الإنسان سيمضي سريعا، ولكنها أتت لتقيم مع الإنسان بصفة دائمة، وتعيد تشكيل علاقاته تبعا لطبيعة الوسيط الرقمي.