تتطلع نفوس بني آدم للمزيد من نصيبها الدنيوي، وتسلك في ذلك سبلا تتوائم مع الأخلاق أو تتصادم مع الفطرة، بعض الناس يسعى لغايته المشروعة بطرق مشروعة، وآخر يقتله الطمع والجشع، وهذه الرغبة الإنسانية ما لم تحكم بقيود الدين والخلق تدمر صاحبها وتدمر المجتمع من حوله، ومصطلح الطمع إذا أطلق يفهم منه الطمع فيما في أيدي الناس، وهو أمر يحدث بين الدول والكيانات والأفراد، لكنه في تعبير القرآن يتناول جوانب أخرى، نحاول استعراض الطمع في القرآن خلال السطور التالية.
وردت مادة طمع اثنى عشر مرة في القرآن الكريم، حسب ما جاء في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم والمعجم المفهرس لمعاني القرآن الكريم، وهي: طمع المؤمنين في إيمان غيرهم ممن يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه، وطمع من تجردوا من الأخلاق في ميل المرأة لهم وذلك نتيجة لما أرسلته من كلمات وإشارات تبين قابيلتها للحديث مع الرجال أو لما هو أكثر منه.
والطمع فيما عند الله تعالى من فضل وإحسان حتى يحشر الطامع في فضله سبحانه وتعالى مع الصالحين، وتوجيه للذي يدعو ربه أن يجمع بين الخوف من عقابه والطمع في فضله؛ جاء ذلك على سبيل الأمر، كما جاء على سبيل الإخبار عن عباد الله الصالحين،ويجتمع الخوف والطمع أيضا في قلب المؤمن عند رؤية الآيات الكونية،ونهي عن الطمع في دخول الجنة لمن لم يعمل لها، وإخبار عن شره بعض الخلق للدنيا مهما نالوا منها.
ولنبدأ بالمعنى المتبادر للطمع وهو: الرغبة في الشيء استجابة لدافع نفسي شديد، والله تعالى يحدثنا عن شخص آتاه من صنوف النعم الشيء الكثير؛ ففي جانب المال يملك مصادر متنوعة؛ من أرض زراعية وتجارة وثروة حيوانية، وأولاده بقربه لا يعانون كما يعاني غيرهم في طلب الرزق بعيدا عن موطنهم، ومع المال والولد جاه وسطوة، بعد كل هذه النعم – التي لم يشكر الله تعالى عليها – يطمع في المزيد.
فالذي يطمع في الزيادة من فضل الله تعالى، هو الذي يقوم بما فرضه الله تعالى عليه من أداء حق النعم؛ شكرا بالقلب واللسان وسائر الأعضاء، أما من لا يفعل ذلك، فواجبه أن يخاف من سلب النعمة { أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج: 38].
ولون آخر من ألوان الطمع حسب التعبير القرآني، هو طمع المؤمنين في إيمان غيرهم؛ رغبة في أن يعم الخير، وينجو الناس من عذاب الله تعالى، وينالوا السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] وهذا الطمع دليل على سلامة القلب وحب الخير للناس (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) هذه الجملة القرآنية الكريمة تصبير للنبي ﷺ وللمؤمنين عندما يقدمون هداية الله تعالى لأهل الكتاب لكنهم يرفضون، واستبعاد إيمان هؤلاء الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه والإنكار على من طمع في إيمانهم، لا يعني أن نيأس من إيمانهم (إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان ميؤوسا منه)[1].
وحالة أخرى من الطمع تدل على صفاء النفس وتطلعها للمعالى والمنازل الرفيعة، وهي الطمع في مرافقة الصالحين في الآخرة {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 84] عندما علموا سعة رحمة الله تعالى طمعوا فيها، وهذا هو اللائق بالمؤمنين الذين يدركون أن تقصيرهم لا يحول بينهم وبين رحمة الله التي وسعت كل شيء، ثم هم مهما عملوا من عمل يرونه دون ما يتمنون، فنفوسهم معلقة بالدرجات العالية الرفيعة، ثم إن حبهم للصالحين وصحبتهم لهم والتخلق بأخلاقهم فتح أمام نفوسهم أبواب الرجاء لكي يدخلوا معهم في دار الكرامة التي أعدها الله لعباده الصالحين، فكان جزاء الكريم سبحانه على من تعلق به ورجى منه العفو عن التقصير، { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة: 85].
ولا يزال الطمع في رحمة الله وعظيم عفوه بأهل الأعراف حتى ينزلهم منازل الأبرار (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) [الأعراف: 46] فيُسلم أصحاب الأعراف على أهل الجنة قبل أن يلحقوا بهم في الدخول إلى الجنة مع طمعهم في إدراك هذه الصحبة الصالحة، (والمراد من هذا الطمع طمع يقين؛ أي: وهم يعلمون أنهم سيدخلون الجنة)[2]. لما رأوا مما يظهر على أهل الجنة من علامات الرضا الإلهي والسعادة البادية على الوجوه والأجساد، ولعل في رؤيتنا لمن أنعم الله عليهم من النعم المادية والروحية يدفعنا لأن نطمع في فضل الله تعالى وما عنده من رحمة وخير، وهذا من حسن الظن بالله الذي يتواصل مع الإنسان من بداية حياته حتى دخوله الجنة.
بعض الناس يطمعون في منازل رفيعة لم يعملوا لها {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج: 38]ومن هؤلاء، الكفار الذين عصوا ربهم وكذبوا بوعده ووعيده ومع ذلك يطمعون أن يكونوا مع عباد الله الصالحين الذين حققوا الغاية من وجودهم.
وكما يكون الطمع في رحمة الله وفي دخول جنته، يكون في حال دعاء الطامحين في نيل الرضوان الأعلى، فيفضلون الوقوف بين يدي الله تعالى على راحة البدن بالنوم، ويقدمون راحة الروح في الصلاة على راحة الجسد، لما يرجون من فضل الله في هذه الساعات المباركة ولما ذاقوا من حلاوة المناجاة، وهم حين يفعلون ذلك يجمعون بين الرغبة فيما عند الله تعالى من الرحمة الواسعة والرهبة من غضبه جل جلاله وعذابه للمقصرين، وهذه طريقة الأنبياء عليهم السلام في دعاء ربهم.
ومن أحوال الصالحين أنهم { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [السجدة: 16]، هؤلاء الذين اختاروا الله تعالى لا يستطيع عقل أن يتصور ما أعده الله عز وجل لهم في دار الكرامة. { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17]
يأمر الله تعالى عباده أن يجمعوا في دعائه سبحانه بين الخوف من عواقب التقصير في طاعته وعقوباته سبحانه وتعالى النازلة بالمقصرين والطمع في رحمته التي يهبها للمحسنين، وهذا مما ينجي العبد من اليأس وشروره التي تصيب اليائس في دينه ودنياه، ولو لم يكن للدعاء من فائدة إلا تعلق القلب بالله والشعور بالافتقار إليه سبحانه لكفى { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56]، وفي هذا المعنى يطلب الخليل عليه السلام من ربه أن يتجاوز عن تقصيره، وهذا الشعور منه عليه الصلاة والسلام لأنه يرى أعماله الصالحة قليلة ،وهذا درس للمؤمنين ألا ينظروا لأعمالهم بإعجاب وتقدير فكلها من توفيق الله تعالى للعبد وتيسير الطاعة على القلب والبدن { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [الشعراء: 82].
ومما يقوي القلب في الطمع في عفو الله تعالى ومغفرته مسابقته إلى الخيرات، فإن المسابقة في اختيار الحق رغم قلة المؤمنين به و ما يصاحبه من عقبات، يدل على عمق الإيمان وصدق اليقين { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 51]
وقد ورد الطمع أيضا عند رؤية آيات الله الكونية التي ينتفع بها البعض وتكون عقابا على آخرين، ومن هذه الآيات البرق فإنه علامة على نزول المطر، الذي يحي به الله تعالى الأرض ومن يعيش عليها من إنسان ونبات وحيوان وكائنات نعرفها ولا نعرفها، ويغرق الله تعالى به من يشاء من خلقه وتتعطل به حركة الطيران والسفن والسيارات { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } [الرعد: 12]، وكون الشيء الواحد حياة لشخص أو مجموعة من الناس وإتلافا لآخرين ، مما يلفت النظر إلى تمام القدرة والحكمة و يحتاج المؤمن معه للتأمل ليزداد إيمانا بالله ومعرفة به سبحانه ويقينا في حكمته جل جلاله { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا } [الروم: 24].
ومن الآيات التي تحض على العفاف وتصون العلاقة بين الرجل والمرأة من همزات النفس الأمارة بالسوء ووسوسة الشياطين قوله تعالى { يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } [الأحزاب: 32] فالخضوع بالقول الذي يترتب عليه طمع من فسدت أخلاقهم يكون بطريقة الكلام وبالألفاظ التي توحي بأن الطريق إلى قلب المرأة مفتوح.
[1] تفسير الراغب الأصفهاني
[2] تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن