الأفكار تملك قوة ذاتية هائلة تنهد كسيول غير مرئية عبر الهواء والمكان، أحيانا لا تقاوم ولا تُصد، كما لا يقاوم الهواءُ ولا يُصَد. فالأفكار لا تخنقها المقاومة ولا تنهيها الخصومة، ولا تنهد أمام تهديد، كما في حال “جاليليو” وهو يوقع اعترافا للكنيسة بأن الكرة الأرضية لا تدور وأنها مركز الكون، فيكتب وهو يهمس باللاتينية التي لا يفهمها جلاوزة الكنيسة: “ولكنها تدور، ولكنها تدور”، وهذا ما ثبت والجلاوزة اندثروا. حتى لو غُيِّب الأشخاصُ أو أُنهوا أو تجابوا للتهديد فأفكارهم ستعيش وتبقى، تبقى حرّةً تدور في الهواء وتنتقل في تياراته كما كانت وكما ستكون حتى لو غاب مبدعوها.
صحيح أن الأفكار قد تستكين وتهبط وترخو كما الهواء ولكنها موجودة، وأحيانا تهب من كمونٍ إعصار يخلع واقعاً اعتاده الناس، أو فكراً ناموا عليه أزمانا. بل حتى لو عارضها محاربٌ أو مضاد أو كاره لها فهو لا بد متأثر بها أراد أم لم يرد. فالمرء يتنسم الهواء بأشكاله طليقا منعشا، أو فاسدا ملوثا، لأنه لا يستطيع وقف التنفس.
وترون أن هنا مصدر قوة الأفكار، أنها تدخل الدماغ بلا استئذان، لذا فهي تنفذ حتى إلى خصومها من غير قصد على الرغم منهم. فالأفكار كما أننا نتلقاها عن وعي، وعي عاطفي أو صحوة ضميرية أو قناعة منطقية عقلية. وهنا سر انتشارها السريع والجارف.
ولطالما تصدى لها المعادون بالأسلحة وبالقوة والعنف، والنتيجة أن الأفكار لا تقهر بأي سلاح كان ولو كان صاروخا محملا برؤوس نووية عابرا للقارات. الأفكار لا تهزمها إلا الأفكار التي هي أقوى منها، الأفكار لا تزيلها إلا أفكارٌ أصحّ منها.
تثبت السجلات البشرية الحضرية أن الأفكار هي مولدات التغيير الكبرى في التاريخ في كل مجال. فالأفكار تدخل العقول وتستولي على النفوس وتدفع أصحابها إلى الإيمان بها، والعمل الدؤوب والكفاح من أجل تحقيقها وتطبيقها، وتحرك الهمم، وتسيِّر الجماهير، ثم تنتقل كالعدوى السريعة الانتشار فتدفع الناس إلى الاستبسال والبذل والفداء.
وكما أسلفت هي أفكار تغزو، ولا يمكن صدها مهما فعلنا ولو اعتقدنا أنه بقفل كل وسائل التواصل سنمنعها، فإنها ستنتشر أكثر عبر مساماتٍ لا تُرى. إن الأفكارَ أحيانا تفتح الآفاق بلا حد، وتسيِّر الناس في السهول المزهرة الخضراء الواسعة الامتداد. ولكنها أحيانا حصار يُفرض على الأفراد والمجتمعات غير مرئي أقوى من أي حصار عسكري أو قمعي.
كل فرد منا يتأثر بالغزو الفكري بطريقته الخاصة، وهناك عوامل كثيرة تجعل شخصا يتأثر دون أو أكثر من الآخر. وفي المقبول، الإنسانُ يأخذ الأفكارَ ويتعامل معها ولا يمكن أن يقف منها سلبيا مطلقا، ولا إيجابا مطلقا، ليمنحها الكثير من تفكيره، وليحللها في معمل دينه وقيمه ومبادئه، وليسكبها ضمن شخصيته، ويكيفها لأحواله.
فالتعامل مع الفكرِ، فكرٌ أيضا.
نجيب عبد الرحمن الزامل5>