العبودية بين التوحيد والإخلاص : إن تحديد المصطلحات وتوضيح دلالتها ومفاهيمها يساعد أهل العلم على إزالة الإشكال في الفهم، ويضيّق من دائرة الخلاف بينهم، كما يفتح الباب للوصول إلى الحق بعيدا عن أهواء وحظوظ النفوس التي نهانا الشرع الحنيف عنها، إذ تؤدي إلى توسيع دائرة الفرقة والخلاف بين المسلمين المأمورين بالتأصيل العلمي والشرعي لتوحيد الرؤية، خاصة في المسائل العقدية وكليات الدين وأصوله.
على أن من العلماء والدعاة من يستعمل لفظ “الإخلاص” بدل لفظ “التوحيد” لاعتقادهم أن مصطلح التوحيد لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، وأنه طارئ في الفكر والعقيدة الإسلاميين، بينما ورد مصطلح الإخلاص في عدد من آي الذكر الحكيم، بل هناك سورة في القرآن الكريم اسمها سورة الإخلاص.
وفي رأيي أن الخلط بين هاذين المصطلحين إنما يعود لعدة أمور؛ إما لعدم فهم دلالتهما فهما سليما ضمن السياق القرآني ووفق قواعد وضوابط العقيدة عند أهل السنة والجماعة، وإما لأن هذه الرؤية ناتجة عن هوى خفي في النفس، أو بسبب ردود الأفعال تجاه رؤى وأفكار تصنَّف في خانة الفكر المخالف.
مصطلح التوحيد
التوحيد في اللغة وحّد: أصل واحد يدل على الانفراد (1)، وتوحَّد: بقي مفردا، ووحَّده توحيدا: جعله واحدا، والأوحد والمتوحّد : ذو الوحدانية (2). والله الواحد الأحد: ذو الوحدانية والتوحد، والله الأوحد والمتوحد وذو الوحدانية، ومن صفاته الواحد الأوحد، والواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى (3).
التوحيد في الاصطلاح الشرعي
هو الإيمان بالله تعالى وحده، والشهادة بأنه إله واحد لا شريك له (4) وفسر أهل السنة التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل والمنادّة؛ فالله عز وجل منفرد بذاته، وصفاته وأفعاله لا نظير له ولا شبيه له، متفرد بصفات الكمال ونعوت الجلال، فهو واحد في ذاته لا انقسام له، وفي صفاته لا مثيل له، وفي ألوهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ولا رب سواه ولا إله غيره (5).
مصطلح الإخلاص
الإخلاص في اللغة خلص: هو تنقية الشيء وتهذيبه (6)، وخلص خلوصا وخالصة: صار خالصا والخالص: كل شيء أبيض يمتاز بالصفاء كالثلج (7). وأخلصه وخلّصه وأخلص لله دينه: أمحضه، والمخلص الذي أخلصه الله تعالى وجعله مختارا خالصا من الدنس (8).
الإخلاص في الاصطلاح الشرعي
هو ترك الرياء والسمعة، وهو إسلام الوجه لله، بإخلاص القصد والعمل له، وقيل: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، وقيل تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل استواء أعمال العبد في السريرة والعلانية، وقيل تصفية العمل من كل شوب (9).
صيغ التوحيد والإخلاص كما جاءت في القرآن الكريم
جاءت صيغ التوحيد في القرآن الكريم أربعة:
- وحده: { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورا } (الإسراء: 46)
- واحد: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } (البقرة: 163) .
- واحدا: { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو } (التوبة: 31)
- أحد: { قل هو الله أحد } (الإخلاص: 1)
كما جاءت صيغ الإخلاص في الكتاب العزيز أيضا متعددة:
- مخلصا: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } (الزمر: 2)
- الخالص: { ألا لله الدين الخالص } (الزمر: 3) .
- مخلصون: { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون } (البقرة: 139)
- مخلصين: { هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين } (غافر: 65)
الفرق بين التوحيد والإخلاص
أولا التوحيد
إن التوحيد متعلق بألوهية الله عز وجلّ وربوبيته وأسماءه وصفاته، وحده لا شريك له، وهذا الإفراد في الاعتقاد.
والخبر نوعان:
- الأول: إثبات مباينة الرب تعالى للمخلوقات وعلوه فوق سبع سماوات واستوائه على عرشه كما يليق بجلاله، وفق ما جاءت به الكتب المنزلة وأخبرت به جميع الرسل.
- الثاني: إفراده سبحانه بصفات الكمال وإثباتها له على وجه التفصيل، كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسله منزهة عن التكييف والتحريف والتعطيل والتمثيل (10).
وهذا يعني القطع بألوهية الرب الإله المنزه سبحانه عن الشبيه والمثيل، المقدس عن النظير، المتصف بصفات الكمال المطلق. على أن صفات الخالق تقدست أسماؤه تؤكد على معاني العظمة والكبرياء؛ فهو الخالق لا خالق سواه، وهو رب الأكوان كلها علويها وسفليها، وهو الحي الدائم الباقي، على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، المحيي المميت، الرزاق ذو القوة المتين، وهو الإله الواحد الأحد الفرد الصمد في السماء والأرض، لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه، المعز المذل، الرافع الخافض، الحكم الولي العدل، المغيث، المعين (11)
وقد أفرد الإمام الكبير أبو عبيد الله البخاري حيزا للتوحيد في جامعه الصحيح سماه: كتاب التوحيد، وجاء في باب الأول: “باب ما جاء في دعاء النبي ﷺ أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى” (12).
ثانيا الإخلاص
أما الإخلاص فمتعلق بالعبد، إذ لا يصبح إيمانه ولا تصلح عبادته إلا به، ولذلك نجد الخطاب في القرآن الكريم موجها إلى النبي ﷺ بصفته قدوة للمؤمنين وأسوة لهم يدعوه أن يعبد الله وحده بلا شريك، ويدعو الخلق إلى ذلك، ويعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا بالإخلاص لله تعالى: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } (الزمر: 2 ). وفي الآية الكريمة التي تليها قال الله عز وجل: { ألا لله الدين الخالص } (الزمر: 3)، أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له} (13) وفي نفس السورة الكريمة أمر الله جل وذكره نبيه الكريم بالإخلاص المحض في العبادة: { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } (الزمر: 11) وفي نفس السياق يأتي منطوق الآيتين الكريمتين رقم 14 ورقم 15 ليؤكد أمر إخلاص العبادة لله تعالى مهدّدا ومتوعدا من يتبع هواه في العبادة: { قل الله أعبد مخلصا له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه } (الزمر: 14 – 15).
ولذلك سميت هذه السورة الكريمة سورة الزمر بسورة الإخلاص الكبرى (14) لما جاء فيها من تأكيد على إخلاص العبادة لله وحده، ونبذ الأنداد، وترك الرياء والسمعة، واستفراغ الجهد في الطاعة ظاهرة وباطنا، وأن يكون قصد العبد هو الله تعالى وحده لا شريك له.
الخلاصة
وهكذا، فإن التوحيد قاعدة تصور ومعرفة الله سبحانه وتعالى في ذاته وأفعاله وصفاته، وأنه ليس كمثله شيء. وهذه المعرفة تجعل الإنسان صاحب تصور صحيح ودقيق عن الخالق، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة، وأن أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه.
ولهذا ينبغي التقيّد بما وصف به الرب جلّ ثناؤه نفسه من الصفات، وسمى نفسه من الأسماء، ليكون المؤمن صاحب معرفة صحيحة ودقيقة في توحيد الخالق جل علاه، فتكون معاملته للخالق سبحانه على الوجه الصحيح والمطلوب في الإثبات والمعرفة، وفي الإرادة والقصد، فيجرد العبادة له: حبا، وتعظيما، وخوفا، ورجاء ، وصدقا، وإخلاصا، وإنابة ، وإخباتا، وتوكلا ، واستعانة. أما الإخلاص فعمل قلبي محض تنعكس آثاره على الجوارح، وهو روح الأعمال، إذ نسبته للعمل كالروح للجسد. وعلى قدر ما يحقق العبد الإخلاص في اعتقاده وعمله تكون ترقيته في سلك المخلصين. وعلى هذا النحو ينبغي التفريق بين مصطلح التوحيد ومصطلح الإخلاص، لأن الدلالات تختلف والعلاقات تتشابك؛ فالتوحيد إفراد لله تعالى بالربوبية والألوهية وصفات الكمال ونعوت الجلال، والإخلاص هو روح الأعمال بالنسبة للعباد، وهو الفرقان بين التوحيد والشرك، لكن القول بأن الإخلاص بديل عن التوحيد قول خطأ مخالف للصواب.