من أعظم مواسم الخير المتجددة موسم أيام عشر ذي الحجة التي يكون العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من أيام الدنيا كلها؛ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، بينما ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل الليالي على التحقيق، فأيام عشر ذي الحجة أيام أعمال البر والخير والإحسان، وكان دأب الصالحين من علماء الأمة في عشر ذي الحجة العبادة والتفرغ الكامل من الشواغل، وذلك لأن أيامها يسيرة معدودة لكنها عظيمة تتوفر فيها أمهات العبادة.

قال ابن حجر في الفتح: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره[1]

ومن أجل مكانة هذه الأيام الفاضلة أقسم بها الله تعالى، والله لا يقسم إلا بعظيم، يقول سبحانه تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1، 2]. قال ابن كثير: “والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السّلف والخلف وهو الصحيح[2]

إن في هذا لاستدعاء إلى العزم والحرص الأكيد في استقبال هذه الأيام المباركات واستغنامها بالطاعات القولية والفعلية، كما هو ديدن الصالحين في استثمار أوقاتها وساعاتها، ولهم في ذلك أحوال وسير عطرة يحسن الإقتداء بهم فيها.   

حال الصالحين في عشر ذي الحجة

يقول ابن الجوزي رحمه الله ناصحا:” وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم[3]

الوقوف عند سير الصالحين وإدمان النظر في أحوالهم وأخبارهم في مواسم الطاعات مما يشحذ الهمم، ويحث على التأسي، ويغرس في النفوس الاندفاع إلى نحو أشرف المقامات السامية في سير إلى الله تعالى بأنواع من الطاعات، فالطبع منقاد كما يقال.

وصدق قائل: وإذا فاتك التفات إلى الماضي    فقد غاب عنك وجه التأسي

قال بعضهم: “الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب أوليائه” [4]

قال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم.[5]

هذا، فإن لأئمتنا الصالحين نظرة خاصة لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يعني العشر من ذي الحجة“- قَالُوا:  يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”[6]وقد عظم الصالحون أيام عشر ذى الحجة أيما التعظيم، وعمروها بالأعمال الصالحة والأقوال الحسنة، وقدروها لتقدير النبي صلى الله عليه وسلم لها، ويبرز ذلك من أحوالهم الآتية:

إيقاف الدرس في أيام العشر

حتى يتحقق تمام التقدير وحسن الاستقبال للأيام المباركة؛ رأى بعض أئمة المحدثين عدم عقد مجلس التحديث في أيام العشر رغبة في اغتنام الأوقات بالجد والتشمير.

قال الأثرم أحد تلاميذ الإمام أحمد: أتينا أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل، في عشر الأضحى فقال: قال أبو عوانة: كنا نأتي سعيد الجريري في العشر فيقول: “هذه أيام شغلوللناس حاجات، وابن آدم إلى الملال ما هو[7] وإنما روى الإمام أحمد هذه الحكاية لتلاميذه في هذه المناسبة على وجه التأسي.

التحفظ من جرح الرواة في أيام العشر

جرح نقاد الحديث للرواة يعني القدح في عدالتهم إما بكذبهم أو فسقهم أو غير ذلك، ثم ينبنى على نتيجة الجرح رد حديث الراوى المجروح أو تليينه، ولذا يحتاج القول في هذا الباب إلى دقة الدراية وتمام الورع كي لا يطعن في عرض عباد الله بغير حق، وقيل لابن أبي حاتم يوما وهو يقرأ في كتابه الجرح والتعديل: “كم من هؤلاء القوم قد حطُّوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة، ومائتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم؟ فبكى عبد الرحمن وَرَعا[8].

 ولهذا كان بعض المحدثون يتحفظون ويتحرون في أيام العشر أعظم التَّحَرِّي من الحكم على الحديث خوفا من الزلة التى قد تخدش أعمالهم الصالحة في موسم القربات، بل يفضلون تأجيل النظر في الحديث إلى ما بعد أيام العشر حتى يتم فيه البحث اللائق.

يقول أبو حاتم الرازي:” أتيت يحيى بن معين أيام العشر ـ عشر ذي الحجة ـ وكان معي شيء مكتوب ـ يعنى: تسمية ناقلى الآثار ـ وكنت أسأله خفياً فيجيبنى، فلما أكثرت عليه، قال: عندك مكتوب؟ قلت: نعم، فأخذه فنظر فيه
فقال: أياماً مثل هذا ؟! وذكر الناس فيها؟ فأبى أن يجيبنى وقال: لو سألت من حفظك شيئاً لأجبتك، فأما أن تدونه فإنى أكره[9]

وكذا ذكر البرذعي في سؤالاته لأبي زرعة الرازي، أنه سأل أبا زرعة عن حديث ابن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، في عَشْرِ ذي الحجة، وقال البرذعي: فأبى – يعني أبا زرعة – أن يقرأه علي، وقال لي :فيه كلامٌ أخاف أن لا يصحّ، فلما ألححت عليه، قال: فأخِّرْه حتى تخرج العشر، فإني أكره أن أُحَدِّثَ بمثل هذا في العَشْر، يعني حديث أبي غسان عن جميع بن عمر[10]

وهذا يدل على قيمة ديانة المحدثين وصيانتهم لعلم السنة النبوية.

قوة العبادة في أيام عشر ذي الحجة

كان دأب الصالحين من أول شعاع أيام العشر المباركة إلى آخر لحظتها هو التقلب بين أنواع من العبادات والطاعات، ومجاهدة النفس على حسن استثمار الليالي والنهار لتكون أحوالهم إلى عمل صالح وقول حسن، ومن أبرز دأبهم في هذه الأيام:

1. قيام الليل

إن قيام الليام في عامة حياة السلف سنة متبعة لما فيه من النفحات الإلهية، إلا أنه تتأكد قوة عزمهم عليه في كل أزمنة فاضلة، مثل أيام العشر لما فيها من دورة روحية إيمانية، وهذا التابعيسعيد بن جبير، كان إذا دخلت أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه، بل يأمر ويقول: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة.[11] وكان الحافظ ابن عساكر يعتكف في شهر رمضان، وعشر ذي الحجة.[12]

2. الإكثار من الأذكار

ومن شعائر عشرِ ذي الحِجَّةِ العظيمة المشروعة التكبير والتهليل والتحميد ونحوه،  قال تعالى: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، قال ابنُ عبَّاسٍ: “أيامُ العَشْرِ”

وكان الناس بما فيهم الصحابة الكرام يكثرون التكبير في هذه الأيامبألسنتهم وقلوبهم، وينوّعون ما بين الأذكار آناء الليل وأطراف النهار في الأماكن العامة والخاصة وبأصوات مرتفعة.

وعن ثابت البناني قال: كان الناس يكبرون أيام العشر حتى نهاهم الحجاج، والأمر بمكة على ذلك إلى اليوم يكبر الناس في الأسواق في العشر”.[13]

وعن ميمون بن مهران، قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها[14]

وسمع مجاهد رجلا كبّر أيام العشر فقال مجاهد: أفلا رفع صوته؛ فلقد أدركتهم وإن الرجل ليكبر في المسجد فيرتج بها أهل المسجد، ثم يخرج الصوت إلى أهل الوادي حتى يبلغ الأبطح فيرتج بها أهل الأبطح وإنما أصلها من رجل [15]

3. الحرص على الصيام

صيام أيام العشر من أغظم العمل الصالح الذى حرص عليه الصالحون، وكان أئمة التابعين من أمثال محمد بن سيرين ومجاهد وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس يصومون العشر كله، بل كان عطاء يتكلف صيامها[16] لشدة رغبة في اغتنام خير الأيام،وكان الحسن البصري يكره أن يتطوع بصيام وعليه قضاء من رمضان إلا العشر، وآكد الصيام صوم يوم عرفة، لذا ترى سعيد بن جبير يقول:” أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة”[17] لورود الحديث الخاص في فضل صومه.

4. العمرة

أداء مناسك العمرة في أيام فاضلة وأوقات مباركة من خير الأعمال وأعظم الثواب، وزيادة ثواب العمل بزيادة شرف الزمان، وهذا الذي يجعل ابن عمر رضي الله عنهما يقول: عمرة في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي”.[18]

وعن أبي معن قال: رأيت جابر بن زيد وأبا العالية اعتمرا في العشر”[19]

وهكذا تنافس الصالحين في هذه الأيام الفاضلة بالأعمال الصالحة دون كلل ولا ملل، حيث لا تكاد تنقطع لهم عبادة في ساعات اليوم والليلة اغتناما للوقت ورغية للأجر واستشعارا لحرمة الزمان.

وحري بلبيب مسلم أن يقتدي بهؤلاء البررة ويجتهد ويكثر بما يتيسر له من أنواع الطاعات والعبادات، ولا يتكلف بما لا يطيق، إذ المقصود من الاقتداء بهم اغتنام موسم الخير دون أن يمر بلا فائدة، بل ينظر إلى الأذكار المشروعة، أو قراءة القرآن، أو النوافل من الصلاة والصيام والصدقة أو أوجه البر الأخرى ويكثر مما يتيسر له منها، أو يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الدعوة ونحو ذلك مما في حدود طاقته حتى لا تمر أيام العشر مرورا عابرا.

وكذا يجب أن يستشعر بحرمة هذه الأيام من حيث ارتكاب المعصية، فكما أن الطاعات يتضاعف أجرها في أيام العشر، فإن المعاصي كذلك أعظم إثما فيها وسببا للبعد عن الله تعالى.

يقول القيم رحمه الله: “وقد دل النقل والعقل والفطرة وتجارب الأمم -على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها – على أن التقرب إلى الله رب العالمين وطلب مرضاته والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله تعالى، واستدفعت نقمه بمثل طاعته، والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه”.[20]

قال الحافظُ ابنُ رجب رحمه الله: لمَّا كان اللهُ سبحانه قد وضعَ في نفوسِ المؤمنين حنينًا إلى مشاهدةِ بيته الحرامِ، وليس كلُّ أحدٍ قادرًا على مشاهدتِه في كلِّ عامٍ، فرَضَ على المستطيعِ الحجَّ مرةً واحدةً في عُمرِه، وجعلَ موسمَ العشرِ مشتركًا بين السائرينَ والقاعدينَ، فمَن عجزَ عن الحجِّ في عامٍ، قَدَرَ في العشرِ على عملٍ يعملُه في بيتِه يكونُ أفضلَ مِن الجهادِ الذي هو أفضلُ مِن الحجِّ.[21]

إذن، وفي سير الصالحين وحكايتهم كفاية لمن يريد لزوم الطريقة المثلى إلى الله تعالى في جميع حياته، وفي برنامج عملي في استقبال أيام العشر واستثمارها على وجه الخصوص.

ورحم الله الإمام أبو حنيفة القائل: “الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إليّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم[22].


[1]  فتح الباري 2/460

[2]  تفسير ابن كثير 8/ 381

[3]  صيد الخاطر ص: 440

[4]  أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض 1/6

[5]  التبصرة لابن الجوزي 2/ 124

 [6] رواه البخاري (969(

[7]  الأثرم للأمام أحمد بن حنبل، ص: 39

[8]  الكفاية للخطيب (71)

[9]  الجرح والتعديل 1 / 317

[10]  سؤالات البرذعي لأبي زرعة الرازي 2 / 550 – 551

[11]  ينظر: لطائف المعارف ص:263

[12]  تذكرة الحفاظ 4/ 1332

[13]  أخبار مكة للفاكهي 3 / 10

 [14] فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/9

[15]  مصنف ابن أبي شيبة 3 /250

[16]  ينظر مصنف ابن أبى شيبة 2/300

[17]  سير أعلام النبلاء 4/ 326

[18]  مصنف ابن أبي شيبة 3 / 160

[19]  المصدر السابق 3 / 160

[20]  الداء والدواء. ص:30

[21]  لطائف المعارف لابن رجب، ص: 272

[22]  جامع بيان العلم 1/509