في زمنٍ يُعاد فيه النظر إلى أسس الحضارات ومسارات التقدم الإنساني، يبرز كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” للمؤرخ وعالم الرياضيات الفذّ، الأستاذ أحمد جبار، كمنارةٍ فكرية لا غنى عنها. هل كانت الحضارة العربية الإسلامية مجرد ناقل أمين لعلوم الأقدمين، أم أنها كانت بوتقة إبداع أصيل غيّرت مجرى المعرفة العالمية؟

يدعونا جبار في مؤلَّفه المرجعي هذا – الذي يخاطب العقل والوجدان بلغته الفرنسية الأصلية وبترجمته العربية الرصينة – إلى رحلة استكشافية ماتعة وعميقة، ليس فقط لتعداد إنجازات علماء أفذاذ كالخوارزمي وابن الهيثم وابن سينا، بل أيضًا لفك شفرات السياقات الفكرية والمؤسسية التي أفرزت هذا الفيض العلمي الباهر بين القرنين الثامن والخامس عشر الميلاديين.

تسعى هذه المراجعة لولوج عوالم “العصر الذهبي للعلوم العربية”، هذا الكتاب الثري، مستكشفةً كيف ينجح جبار في رسم لوحة بانورامية حية لذلك “العصر الذهبي”، مُعيدًا الاعتبار لإرثٍ شكّل جسرًا معرفيًا حاسمًا نحو الحداثة، ومُجيبًا على أسئلة لطالما شغلت الباحثين والمهتمين بتاريخ الفكر الإنساني.

يُشكّل كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” للمؤرخ والرياضياتي الجزائري الفذّ، الأستاذ أحمد جبار، منارةً فكرية وعملاً مرجعياً شامخاً، يُسبر أغوار واحدة من أزهى الحقب في تاريخ الفكر الإنساني. هذا المؤلَّف، الذي صدر بلغته الفرنسية الأصلية ليخاطب دوائر أكاديمية عالمية، ومن ثم تُرجم إلى العربية بجهد مشكور من الأستاذ محمد نعيم، ليس مجرد تأريخ سردي للإنجازات العلمية، بل هو غوص تحليلي عميق في البنى الفكرية، والسياقات الثقافية، والأسس المؤسسية التي أفرزت هذا الفيض العلمي الباهر الذي شعّ من الحضارة العربية الإسلامية بين القرنين الثامن والخامس عشر الميلاديين، مُشكّلاً جسراً معرفياً لا غنى عنه بين علوم الأقدمين ونهضة أوروبا اللاحقة.

رجل مسن ذو شعر رمادي ومجعد، يرتدي نظارات وقميص أزرق تحت سترة مقلّمة. يبدو في وضعية حوار، مع تعبير وجه جاد. الخلفية تحتوي على أريكة بنية وخفيفة.
المؤرخ الجزائري الأستاذ أحمد جبار مؤلف كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية”

رؤية أحمد جبار المنهجية وأبعادها الفريدة

ينطلق الأستاذ جبار في كتابه “العصر الذهبي للعلوم العربية” من رؤية بانورامية، تستمد قوتها من تخصصه المزدوج في الرياضيات وتاريخ العلوم، مما يمنحه قدرة فريدة على فك شفرات النصوص العلمية الأصيلة وتقدير دقتها المفاهيمية، وفي الآن ذاته، تأطيرها ضمن سياقها الحضاري الأوسع. يتميز منهجه بالخصائص الجوهرية التالية:

تجاوز النقل إلى الأصالة والإبداع:

يُصرّ جبار على تجاوز الصورة النمطية التي تحصر دور العلماء العرب في مجرد “نقلة” للمعرفة اليونانية أو الهندية. إنه يُبرز ببراعة عمليات “التمثّل النقدي” (appropriation critique) للمعارف الوافدة، و”الإبداع الأصيل” (création originale) الذي أضاف أبعاداً جديدة وأسس لمناهج مبتكرة. العلماء العرب، في منظور جبار، كانوا فاعلين محوريين في تطوير العلوم، ولم يكونوا مجرد متلقين سلبيين.

المنظور التكاملي للعلوم:

يُجلّي كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” بوضوح التفاعل العضوي والتداخل المثمر بين مختلف فروع المعرفة. فالرياضيات لم تكن جزيرة معزولة عن الفلك، ولا الطب بمنأى عن الصيدلة والكيمياء، أو حتى الفلسفة. هذه النظرة التكاملية تعكس الروح الموسوعية التي ميّزت العطاء العلمي العربي.

التحليل المؤسسي والاجتماعي والثقافي:

يولي جبار عناية فائقة لدور البنى التحتية للمعرفة، كالمكتبات الكبرى (وفي طليعتها “بيت الحكمة” كنموذج مؤسسي رائد)، والمراصد الفلكية المتقدمة، والبيمارستانات (المستشفيات) التي كانت مراكز علاج وتعليم وبحث. كما يحلل أثر “الرعاية” (mécénat) من قبل الخلفاء والأمراء، والدور الحيوي للغة العربية كوعاء جامع ولغة علم عالمية آنذاك، فضلاً عن البيئة الحضرية المزدهرة في بغداد وقرطبة والقاهرة وغيرها.

العلوم العربية كحوار للحضارات:

يقدم جبار العلوم العربية كحلقة ذهبية في سلسلة التطور المعرفي الإنساني، موضحاً كيف استوعبت وأغنت بشكل خلاق موروثات حضارية متنوعة (يونانية، وفارسية، وهندية، وسريانية)، ثم أورثتها لأوروبا اللاتينية في العصور الوسطى، مُحدثةً بذلك شرارة النهضة الأوروبية.

لغة علمية رصينة وجاذبة:

يتميز أسلوب جبار، سواء في نصه الفرنسي الأصلي أم في ترجمته العربية الموفقة، بالدقة الأكاديمية والوضوح المنهجي، مع قدرة لافتة على تبسيط المفاهيم المعقدة دون السقوط في التسطيح، مما يجعل كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” في متناول جمهور واسع يتجاوز حلقة المتخصصين الضيقة.

صورة مقال "العصر الذهبي للعلوم العربية".. رحلة إلى الإبداع العلمي الإسلامي
غلاف كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” النسخة الفرنسية

محاور كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية”

هذا استعراض بانورامي لأهم محاور كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” من منظور المؤلف:

الفصل التمهيدي: الإطار الحضاري العام

في كتابه “العصر الذهبي للعلوم العربية” يرسم جبار هنا لوحة شاملة للظروف السياسية (وحدة الإمبراطورية ثم تعدد المراكز الحضرية الفاعلة)، والاقتصادية (ازدهار التجارة والزراعة والصناعة)، والثقافية (هيمنة اللغة العربية، والتشجيع الديني الأولي على طلب العلم والتفكر في الكون) التي هيأت التربة الخصبة لـ “العصر الذهبي”. يؤكد أن هذا الازدهار لم يكن وليد مصادفة، بل نتاج تفاعلات ديناميكية معقدة.

حركة الترجمة: استيعاب نقدي للموروث العالمي

يصف جبار في مؤلفه “العصر الذهبي للعلوم العربية” هذه المرحلة بأنها “حاسمة” (cruciale) و”تأسيسية”. لا يكتفي بسرد الأعمال المترجمة وأسماء المترجمين، بل يغوص في دوافع هذه الحركة الضخمة، وآلياتها، والتحديات اللغوية والفكرية التي واجهت روادها كحنين بن إسحق وثابت بن قرة. يشدد على أن الترجمة لم تكن نقلاً أعمى، بل عملية “إبداعية” تضمنت الاختيار الدقيق، والشرح، والتنقيح، والتصحيح الأولي، مما مهد الطريق للإسهامات اللاحقة.

الرياضيات: لغة الدقة والبرهان والابتكار

هنا، تتألق خبرة جبار كرياضياتي. يُفصّل كيف كان تبني نظام الترقيم الهندي وتطويره (ما يُعرف عالميًا بالأرقام العربية) ثورة حسابية حقيقية. يُبرز الدور التأسيسي للخوارزمي في صياغة علم الجبر كعلم مستقل ومنهجي، متجاوزًا الحلول الحسابية الجزئية القديمة، ومُدخلاً مفهوم “الخوارزمية. يستعرض التطورات النوعية في الهندسة (أعمال بني موسى، وثابت بن قرة، وعمر الخيام)، وحساب المثلثات الذي ارتقى به العرب ليصبح فرعًا مستقلاً بذاته، له أدواته ومناهجه (أعمال البتاني، وأبي الوفاء البوزجاني، ونصير الدين الطوسي). يركز جبار على الطابع “البرهاني” (démonstratif) الذي حرص عليه الرياضيون العرب، والذي يشكل جوهر المنهج الرياضي.

الفلك: رصد السماء، فهم الكون، وتصحيح النماذج

يربط جبار الاهتمام العميق بالفلك بالحاجات العملية والدينية (تحديد أوقات الصلاة، واتجاه القبلة، ورؤية الهلال، والملاحة البحرية والبرية، ووضع التقاويم الدقيقة). ويُظهر كيف أن الفلكيين العرب لم يكتفوا بتطبيق نماذج بطليموس، بل أخضعوها لنقد علمي صارم، وصححوا العديد من أرصاده، بل وقدموا نماذج كوكبية بديلة أكثر دقة (خاصة إسهامات مدرسة مراغة الفلكية: نصير الدين الطوسي، ومؤيد الدين العرضي، وقطب الدين الشيرازي، وابن الشاطر الدمشقي)، والتي يُعتقد أنها أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر في النماذج التي قدمها كوبرنيكوس لاحقًا. إن بناء المراصد الفلكية الكبرى (كمرصد مراغة وسمرقند) وتطوير الآلات الفلكية المتطورة (كالأسطرلاب بأنواعه، والربع المجيب، وذات الحلق) كان دليلاً على هذا التفوق.

الفيزياء والبصريات: نحو التأسيس للمنهج التجريبي

يحتل الحسن بن الهيثم (Alhazen) مكانة مركزية في هذا السياق. يحلل جبار كتابه الثوري “المناظر” (Kitab al-Manazir) ليس فقط كإسهام جوهري في فهم آلية الإبصار (وتصحيح نظرية الانبعاث اليونانية)، بل كتجسيد رائد للمنهج العلمي القائم على الاستقراء، والتجربة المضبوطة، والبرهان الرياضي. يناقش جبار كيف أن ابن الهيثم “قلب” (renversé) المفاهيم السائدة وأسس لعلم البصريات الفيزيولوجية والفيزيائية. كما يتطرق الكتاب إلى إسهامات في الميكانيكا (علم الحيل النافعة) كما في أعمال بني موسى بن شاكر، ودراسات حول الثقل النوعي والظواهر الطبيعية الأخرى.

الكيمياء (الخيمياء): من السيمياء إلى العلم التجريبي

يميز جبار بذكاء بين الجانب الرمزي والفلسفي للخيمياء (السيمياء القديمة الساعية لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب) والجانب العملي التجريبي الذي تطور على أيدي العلماء العرب ليضع أسس علم الكيمياء الحديث. يركز على إسهامات جابر بن حيان، الذي يُنسب إليه الفضل في تطوير العديد من العمليات الكيميائية الأساسية (التقطير، والتكليس، والتبلور، والتسامي، والتكثيف)، وتصنيف المواد (الأرواح، والأجساد، والأملاح). كما يذكر أبا بكر الرازي الذي طبق الكيمياء في مجال الصيدلة، وقدم وصفًا دقيقًا للأدوات والمواد الكيميائية، وشدد على أهمية التجربة.

الطب والصيدلة: ريادة علمية وابتكار مؤسسي

يصور جبار هذا الميدان كأحد أبرز تجليات العبقرية العلمية العربية وأكثرها تأثيرًا في الحضارات الأخرى. يستعرض أعمال عمالقة الطب كالرازي (صاحب “الحاوي في الطب” الموسوعي وملاحظاته السريرية الدقيقة)، وابن سينا (الشيخ الرئيس، صاحب “القانون في الطب” الذي ظل المرجع الطبي الأهم في جامعات أوروبا لقرون)، والزهراوي (أبو الجراحة الحديثة، ومؤلف “التصريف لمن عجز عن التأليف” الذي تضمن وصفًا للآلات الجراحية المبتكرة). كما يصف البيمارستانات (المستشفيات) كنماذج متقدمة لمؤسسات العلاج والتعليم الطبي والبحث العلمي، متفوقة على مثيلاتها في العالم آنذاك. ويشير إلى التطور الكبير لعلم الصيدلة (الأقرباذينات) كعلم مستقل، يُعنى بتركيب الأدوية واختبار فعاليتها.

العلوم الطبيعية الأخرى والتطبيقات التقنية

يشمل هذا القسم اهتمام العرب بعلوم الحياة والأرض، كعلم النبات (إسهامات أبي حنيفة الدينوري، وابن البيطار في موسوعته النباتية)، وتصنيف النباتات وخصائصها الطبية والغذائية. وفي علم الحيوان، يبرز “كتاب الحيوان” للجاحظ بملاحظاته الدقيقة وسلوكيات الحيوانات. أما في مجال الجيولوجيا والمعادن، فيذكر إسهامات البيروني في تحديد الكثافة النوعية للمعادن والأحجار الكريمة، ودراساته حول تكون الطبقات الأرضية. كما يلمح الكتاب إلى التقدم في التقنيات الزراعية، وأنظمة الري، وبعض الصناعات.

أفول نجم العلوم: تحليل مركب للأسباب والتداعيات

يتناول جبار هذا الموضوع الشائك بحصافة المؤرخ وعمق المحلل، متجنبًا التفسيرات التبسيطية أو الأحادية الجانب. يوضح أن “الأفول” لم يكن حدثًا مفاجئًا أو انهيارًا كاملاً، بل عملية تدريجية معقدة، تضافرت فيها عوامل متعددة:

سياسية: حالة عدم الاستقرار السياسي، والصراعات الداخلية، والغزوات الخارجية (المغولية، والصليبية)، وتفتت السلطة المركزية الداعمة للعلم.

غلاف كتاب بعنوان "العلوم العربية في عصرها الذهبي" يتضمن رسومات تاريخية لشخصيات وأحداث من تلك الفترة. الكتاب يعرض أهمية العلوم العربية وتأثيرها على الحضارة العالمية، مع تصميم ملون يجذب الانتباه.
غلاف كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” النسخة العربية ترجمة محمد نعيم

اقتصادية: تدهور الطرق التجارية التقليدية، والأزمات الاقتصادية التي أثرت على تمويل البحث العلمي ورعاية العلماء.

اجتماعية وثقافية: تصاعد بعض التيارات الفكرية التي أبدت تحفظًا أو عداءً تجاه “العلوم الدخيلة” (علوم الأوائل)، والتراجع النسبي لدور العقلانية النقدية في بعض المؤسسات التعليمية، وتحول الاهتمام في بعض الحقب من البحث الأصيل المبتكر إلى الشروح والتلخيصات والاختصارات (وإن كان هذا لا ينفي استمرار بعض البؤر الإبداعية هنا وهناك).

يؤكد جبار أن هذا التراجع لم يمحُ الإرث العلمي العظيم، الذي ظل حيًا لينتقل إلى أوروبا ويشكل خميرة نهضتها.

القيمة العلمية والأثر الحضاري

تفنيد الصور النمطية واسترداد السردية التاريخية: يُعتبر كتاب جبار “العصر الذهبي للعلوم العربية” مساهمة جليلة في تفنيد الكثير من الصور النمطية الغربية التي طالما قللت من شأن الإسهام العربي أو حصرته في دور الوسيط السلبي. إنه عمل “استرداد” (réappropriation) لهذا التاريخ العلمي المجيد، ووضعه في مكانه الصحيح ضمن مسيرة الحضارة الإنسانية.

مصدر إلهام ومرجعية للباحثين والمثقفين: يُقدّم كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” مادة ثرية ونقطة انطلاق مثالية للباحثين المتخصصين في تاريخ العلوم والفكر الإسلامي. وفي الوقت نفسه، يُعد مصدر تثقيف رفيع لعموم القراء المهتمين بتاريخ الحضارات ودور العلم في تقدم المجتمعات.

تأكيد على عالمية العلم: يُظهر كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” بوضوح كيف أن العلم لا يعرف حدودًا جغرافية أو عرقية، وكيف أن الحضارات تتفاعل وتغتني من بعضها البعض في مسيرة لا تتوقف.

الخاتمة

إن مؤلَّف “العصر الذهبي للعلوم العربية” للأستاذ أحمد جبار هو أكثر من مجرد سرد تاريخي؛ إنه احتفاء بالعقل الإنساني في أوج تجلياته الإبداعية، وشهادة عميقة على حيوية الحضارة العربية الإسلامية وقدرتها على الابتكار والمساهمة الجوهرية في صرح المعرفة الكونية.

بفضل رؤيته المنهجية الثاقبة، وتحليلاته العميقة، وشموليته المعرفية، وأسلوبه الرصين، يظل كتاب “العصر الذهبي للعلوم العربية” منارة مضيئة، ومرجعًا أساسيًا لا غنى عنه، يستحق القراءة المعمقة والتأمل، ليس فقط من باب الاعتزاز بتراث الأجداد، بل كدعوة ملهمة للأجيال الحالية والقادمة لاستلهام هذا الإرث العظيم، وتجديد الروح العلمية، من أجل بناء مستقبل عربي يسترشد بنور العقل والمعرفة.