ستكون من المحظوظين إن لم تصادف في حياتك حتى يوم الناس هذا، عقلا متصلبا أو مجموعة عقول متحجرة على صورة زملاء عمل أو أصحاب أو حتى من الأهل والأقارب، الذين لا يرون ما ترى، ولا يعتقدون ما تعتقد. وليست ها هنا الإشكالية، بل في عدم استعداد تلك العقول لقبول أي نقاش أو حوار أو استعداد لتغيير معتقدات وتوجهات وآراء.
هكذا كثيرون هنا وهناك. فإذا كنت صادفت أحدهم أو عدداً منهم في مواقف حياتية مختلفة، فلابد وأنك تشعر ما أتحدث عنه. أما إن لم يحن الوقت بعدُ لتلتقي بعقل متحجر متصلب، فكن على ثقة بأنك ما دمت تتنفس أكسجين الهواء، فلابد أنك ملاقيه، عاجلاً أم آجلا، فكن على استعداد دائم.
منشأ تلكم العقول المتحجرة، هي تلك البيئات التي تتمسك بمبدأ قديم متجدد، هو ذاك الذي بذل الأنبياء والرسل الكرام، ومن بعدهم كثير من المصلحين في تعديله وتغييره، فأفلح البعض ولم يفلح البعض الآخر، وإن كان لكلٍ أجره وثوابه. إنه مبدأ { حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا } (المائدة : 104) .
ما الذي أهلك فرعون موسى سوى عقله المتحجر المتصلب؟ وبالمثل فرعون هذه الأمة، أبوجهل وثلة أخرى معه متعصبة كأمية بن خلف والنضر بن الحارث وغيرهم كثير كثير. وما الذي أهلك الأقوام السابقة، قوم نوح، وأبرزهم ابنه الذي ناداه أن يركب معه السفينة في اللحظات الأخيرة قبل الطوفان، فأبى وتكبّر ورد على أبيه المشفق بأنه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء، حتى هلك مع الهالكين من قومه غرقاً، ثم تبعهم قوم عاد وثمود، ومن بعدهم قوم شعيب وغيرهم من الأقوام الغابرة التي عرفنا أخبارها عبر القرآن الكريم، وأقوام أخرى نعاصرها والتي ربما تنتظر دورها في الهلاك بصورة وأخرى، ما لم ترجع إلى الصراط المستقيم.
لم تهلك تلك الأقوام البائدة ورموزها إلا بسبب ذلك المبدأ الذي يزينه الشيطان في كل زمان ومكان. المبدأ الذي يدور حول التمسك غير المبرر بقديم بال خاطئ، وبعيد عن الحق والصواب، الذي ترجمه القرآن في آيات كثيرة:
منها: { إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون } (الزخرف : 22)
ومنها: { قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } (الشعرا : 74)
ومنها: { قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } (البقرة : 170).
آيات كثيرة تؤكد على ذلك المعنى أو المبدأ الذي خدع به الشيطان أولياءه، حتى صار تراث الآباء والأسلاف بوصلة للأبناء والأحفاد في الحياة الدنيا، وإن كانت اتجاهاتها خاطئة مهلكة، وهو ما أشار إليه القرآن في مواضع عدة، ساخراً من هؤلاء المتمسكين بإرث الأسلاف، وإن كان باليا خاطئا مهلكا { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } (البقرة : 170).
لا شيء في أن يتمسك المرء بتاريخه وتراثه وعاداته وثقافته القديمة طالما أنها على صراط مستقيم، أو على جادة من حق مبين، من تلك التي لا يخسر بسببها المرء دنياه قبل آخرته. فما فائدة تاريخ الآباء والأجداد، أو تراثهم وثقافتهم وأعرافهم، إن كانت خاطئة وعلى الباطل متجذرة؟
من هنا تأتي أهمية أن يكون العقل واعياً ناضجاً مدركاً لما حوله، لا متحجراً أو متخشباً. فالعقل الواعي دوره مؤثر في إنقاذ صاحبه قبل فوات الأوان، من خلال عمليات مستمرة في تقييم معتقدات وثقافات وتراثيات الأسلاف، وفق معايير من الحق واضحة من تلك التي جاء بها الأنبياء والمرسلون، الذين كانت أبرز مهامهم في أقوامهم، تليين العقول المتحجرة، وتنبيهها وتهيئتها لقبول الحق، ونبذ الباطل وتركه.
روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “دعا رسول الله – ﷺ- اليهود إلى الإسلام، فقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أي ما وجدنا عليه آباءنا. فهم كانوا خيراً وأعلم منا، فأنزل الله تعالى (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وقيل – كما جاء في التفسير الوسيط للطنطاوي – بأن الآية نزلت في مشركي العرب وكفار قريش، الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله دون علم ولا برهان. فإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله من قرآن، أعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء.
خلاصة موضوعنا أن العقل المتحجر هو نتاج أو صناعة بيئة تسود فيها ثقافة التقليد الأعمى، أو الثقافة الإمّعية المتجسدة في سلوك الامتثال، الذي يدفع بالفرد حين يرى بعض رموز مجتمعه في موقف ما خاطئ، إلى الامتثال لهم واتباعهم، وعدم مخالفة الأكثرية أو الشذوذ عنهم، رغم يقينه التام أنهم على باطل! وذلكم السلوك سببه عقله المتحجر غير المرن، وغير المُدَرّب على مهارات التفكير السليم والاتصاف بخلق الأخذ والعطاء، فإن أحسن الناسُ أحسن، وأن أساؤوا أساء. إنه ذات السلوك المنهي عنه في حديثه – ﷺ:”لا يكُن أحدُكم إمّعَة، يقول: أنا مع الناس. إن أحسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ. ولكن وَطِّنوا أنفسكم. إن أحسنَ الناسُ أن تُحسِنُوا، وإن أساؤوا ألا تَظلِمُوا”.