أنزل الله جل وعلا في المنافقين سورة سُميت باسمهم، تفضح بعض مواقفهم، وتُخبر عن بعض صفاتهم، وكان من جملة ما نَعَتَهُمْ الله تعالى به قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
فقد وصفهم الله تعالى بأن الناظر إليهم يُعجبُ بجمال أجسامهم، ومن يسمعهم يُؤخذ بفصاحة ألسنتهم، لكنهم كالهياكل الفارغة، أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام. وهذه الصفات تتناسب مع حالة النفاق، إذ إن ظاهر المنافق دائمًا خير من باطنه، فظاهره الإيمان، وباطنه الكفر، وهو ذلق اللسان، لكنه يقول غير ما يعتقد؛ فهو كذاب، وهو جميل الصورة، لكنه عاطل من الصفات النبيلة كالإيمان والمروءة والرجولة، وكل ما يزين الباطن. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “كان عبد الله ابن أُبي (رأسُ النفاق) وسيمًا جسيما صحيحًا صبيحًا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي ﷺ مقالته” (تفسير القرطبي:18/124).
ولمّا كان للظاهر سلطانه القوي في التأثير، وانتزاع الإعجاب علَّم النبي ﷺ أصحابه ضرورة تجاوزه إلى المعاني الباطنة؛ لأنها هي الفيصل الحقيقي في تقييم الرجال؛ وقد ورد في الحديث الصحيح: أن رجلًا مرَّ على النبي ﷺ فقال: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قالوا: حريٌّ إن خَطَبَ أن يُنْكَحَ، وإن شَفَعَ أن يُشَفَّعَ، وإن قال أن يُسْمَعَ. ثم مرَّ رجلٌ من فقراءِ المسلمين، فقال: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قالوا: حريٌّ إن خطبَ أن لا يُنْكَحَ، وإن شَفَعَ أن لا يُشَفَّعَ ، وإن قال أن لا يُسْمَعَ. فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «هذا خيرٌ من ملءِ الأرضِ مثلَ هذا» (أخرجه البخاري: [5091]). ففضَّل النبي ﷺ الفقير على الغني، وذلك لا يلزم منه تفضيل كل فقير على كل غني، إنما أراد أن يعلمهم أن التفاضل لا يقوم أبدًا إلا على المعاني الباطنية، وما يتبعها من أعمال. وتطرح هذه الآية الكريمة مسألة خطيرة في حياة الإنسانية بعامة وحياة المسلمين بخاصة، هي قضية العلاقة بين الشكل والمضمون، أو الجوهر والمظهر.
الجوهر والمظهر ونعني بالجوهر ابتداءً: مجموع الخصائص الخُلُقِيَّة والنفسية، والصور الذهنية، والخبرات والموازنات العميقة للفرد. أما المظهر: فإنه مجموع ما يحمله الفرد من الصفات الجسمية، وما يمتلكه من الأشياء، وما يتحمله من وظائف، مما لا يعد على صلة مباشرة بكينونته الذاتية. في البداية ليس الجوهر والمظهر شيئين منفصلين انفصالًا تامًا، بل بينهما علاقة تأثر وتأثير وأخذ وعطاء، وقد ورد ما يدل على هذا، فقد كان النبي ﷺ كان يمسح مناكب أصحابه في الصلاة، ويقول: «اسْتَوُوا ولا تَختَلِفُوا فتَختلِفَ قلوبُكمْ» (أخرجه مسلم: [432]). والمرء حين ينشرح صدره يظهر ذلك على مُحيّاه، ومن ثم قيل: “من كثرت صلاته بالليل ضاء وجهه في النهار”.
وإذا كان بين الظاهر والباطن مثل هذا التجاذب والتلازم فإن من البدهي ألا يزهِّد الإسلام الناس في الشكل؛ فالصلاة موقف روحي بحت، ومع ذلك حرص النبي ﷺ على انتظام الصفوف فيها، والأمر قريب من ذلك في صفوف القتال.
وحث الإسلام على النظافة، كما امتنَّ الله سبحانه علينا بما نشعر به من التأنق عند غدوِّ الأنعام ورواحها، كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6]، وتلك مسألة شكلية. والأمثلة على هذا أكثر من أن تُحصى.
ما هي المشكلة؟
إذن ما هي المشكلة؟ تكمن المشكلة في اختلال التوازن بين الجوهر والمظهر، أو بين المضمون والشكل؛ فالبشر متفقون على أن اللباب هو الأصل، وأنه ينبغي أن يُعطي من الاهتمام والعناية والبلورة القسط الأكبر لأن كل الإنجازات الحقيقية التي تتم على السطح نابعة أساسًا من إنجازات تمت على مستوى الكينونة والجوهر. وهذا يتناسب مع حقيقة تسخير الكون الذي حبا الله تعالى به الإنسان؛ كيما يظل حرًا طليقًا يحكم ويأمر دون أن يُكَبَّل! بشيء من صنع يديه!
وللمجتمع وما يقره من أعراف سلطانٌ كبير على الناس، ولما كان الحكم الاجتماعي منصبًا على الشكل كان الانحدار نحو الاهتمام بالشكل هو الأمر الطبيعي المتبادر إليه، أما العناية بالجوهر فيمكن أن تنمو عن طريق التربية الخاصة في الأسرة أو المدرسة، لكن ذلك سيظل ضعيف التأثير ما لم يكن المجتمع كله خاضعًا لمبادئ عليا خارجة عن إنتاجه، ولن يكون مصدر تلك المبادئ حينئذ الأرض، وإنما السماء! لكن حين يكون الدين عبارة عن بعض الرؤى الغيبية، أو الدغدغات العاطفية كما هو الشأن عند بعض الملل فإنه لا يضع شيئًا في مواجهة التيارات الاجتماعية العاتية؛ لأنه لا يعدو آنذاك أن يكون عنصرًا رخوًا من عناصر الثقافة! وإن الدين الذي يوجِّه ويقوِّم هو الذي نُمحِّص حياتنا من أجله! وحينما يضعف الوازع الديني لدى المسلم فإن الميزان يميل مباشرة لصالح المظهر.
وبما أننا نعيش في عصر نتأثر فيه أكثر مما نؤثر فقد أضيف إلى ضعف الوازع الديني عند أكثر الناس الوقوع تحت تأثير الفلسفة الغربية في جوانب الحياة المختلفة، تلك الفلسفة التي شكَّلت من الإنتاج غير المحدود والحرية غير المحدودة والسعادة غير المتناهية دينًا جديدًا اسمه التقدم! واقتضى ذلك توجهًا كليًا نحو الطبيعة لاستثمار كل شيء فيها! ثم استهلاكه بصورة جشعة لم يسبق لها مثيل ناسين أن موارد الطبيعة محدودة، وأن الطبيعة. سوف ترد على ذلك، بل إنها بدأت بالرد فعلًا! وعلى صعيد الرمز فقد كان البطل المسيحي يستوحي شخصية الشهيد، وهو عيسى عليه السلام حيث وهب حياته من أجل غيره -حين صلب كما يزعمون-، ثم انقلبت الأمور رأسًا على عقب، حيث صار العالم الغربي يستوحي شخصية البطل الوثني، كما يتجسد في أبطال الإغريق والرومان، ذلك البطل الذي يغزو، وينتصر، ويدمر، ويسرق، وينهب.
وشتان ما بين شخصية الشهيد الذي يهب حياته من أجل غيره، وبين المقاتل الذي غايته السيطرة على الآخرين وتضخيم الحياة الشخصية!! وكانت النتيجة ولادة مجتمعات تعاني من الوحدة، والقلق، والاكتئاب، والنزوع التدميري، والخوف من المستقبل، والأنانية الشخصية، والتفكك الأسري. تأثرنا -نحن المسلمين- بهذا كله من حيث ندري، ولا ندري، وتوجهت قوانا الفاعلة نحو الخارج، وأهملنا الجوهر، وكانت حالتنا في بعض النواحي أسوأ ممن تأثرنا بهم؛ لأن القوم صاروا إلى الشكل بعد أن حققوا ذواتهم بطريقة فعَّالة وإن كان انحرافها يحمل في النهاية بذرة موتها؛ أما نحن فقد غادرنا الجوهر لغمر أنفسنا بالشكليات! والناظر في سيرة النبي ﷺ والحياة العامة لصحابته رضوان الله عليهم يجد أن السيطرة كانت للكينونة الداخلية، وليس لما يمتلكه الناس من أشياء؛ لأن المحور الأساسي للحياة الاجتماعية كان الإنسان، وليس الأشياء؛ أما الآن فقد صارت (الملكية) هي المحور.. ويتجلى ذلك واضحًا في أمور عديدة منها:
1- تناقصت الألفاظ المستعملة في الدلالة على الجوهر، في حين زاد تداول الألفاظ الدالة على الأشياء، فحديث المجالس لم يعد يتمحور حول البطولات، والإنجازات، والمواقف الكريمة، والصفات الحميدة، وإنما حول العقارات، والسيارات، وأسعار السلع، وأثاث البيوت، والأرصدة المالية.
2- الرغبة في مزيد من الإنتاج لتحقيق مزيد من الاستهلاك جعل اعتماد الناس على الآلة يتزايد يومًا بعد يوم، وصار الإنسان ترسًا من تروسها، وصار دوره مكملًا لدورها؛ ومن طبيعة هذا الشأن أن يزيد اهتمامنا بالمظاهر، ويشغلنا عن الحقائق.
3- كانت قيمة وجود الإنسان مستمدة مما يُحسن ويتقن، وصارت المعادلة الجديدة: قيمة وجودي مستمدة من مقدار ما أملك، ومقدار ما أستهلكُ! وهذا ولَّد الخوف الدائم من ذهاب الملكية؛ لأن ذهابها ذهاب لمالكها؛ واقتضى ذلك مزيدًا من الشح والأثرة والتقاطع.
4- علاقتنا بالمعرفة تبدلت؛ فقد كان حب العلم واكتساب المعرفة من أجل التفقه في الدين وتنمية الشخصية ومعرفة الحياة. وكانت العملية التعليمية عبارة عن اندماج بين العلم وطالبه، أما الآن فقد صارت علاقة طالب العلم بما يطلب علاقة تجارية بحتة، فهو يتعلم لينال الشهادة؛ وحفظه للمعلومات ظاهري ينتهي عند إفراغها على الورق في الامتحان!
5– السمات الأساسية للجوهر هي: الاستقلالية، والحرية، وحضور العقل النقدي، والاستخدام المثمر للطاقة الإنسانية، والنمو، والتدفق، لكن العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية الجديدة جعلت أنشطة الإنسان عبارة عن انشغال دائم مفصول تمامًا عن قواه الروحية، بل يقف ضدها، ويحد من فاعليتها في كثير من الأحيان؛ مما أدى إلى الاتكالية والسأم والتذمر، وجعل الحياة تفقد طعمها الحقيقي بشكل عام.
6- كانت عواقب الاتجاه إلى الشكل والتغافل عن المضمون كثرَة اللذائذ وانعدام السعادة! واللذة إشباع الرغبة على نحو لا يتطلب نشاطًا، مثل لذة الحصول على مزيد من الربح، أو هي: تجربة لحظة من لحظات الذروة يعقبها في الغالب نوع من الكآبة، ولا سيما حين تكون غير مشروعة، حيث يبدأ التقريع الداخلي. أما السعادة فهي: شعور مصاحب للنشاط الإنساني؛ وهي أقرب إلى أن تكون حالة من الوجود المتصل على ربوة رحبة؛ لأنها وهجٌ لكينونة الإنسان، ونشاطه الداخلي. ويمكن القول: إن السعادة في مقياسنا الإسلامي تتعاظم كلما ردم المسلم من الفجوة القائمة بين معتقداته وسلوكياته، حيث يرضى المسلم عن أدائه، ويستشرف عاقبة المتقين. كل هذه التحولات باتجاه الشكليات جعلت كثيرًا من أمة الإسلام قوة عددية ليس إلا؛ لأن الذي يفقد الصلة بمكوناته الأساسية لابد أن يصبح شكليًا.
فهل تعيد الصحوة المباركة الأمر إلى نصابه بإعادة التوازن من جديد بين الشكل والمضمون، والجوهر والمظهر لنستأنف رسالتنا الحضارية؟! هذا ما نرجوه.