هل تاريخ الكون هو تاريخ ظهور الإنسان على الأرض؟ قد يبدو السؤال غريبا عند مناقشة العلاقة بين الدين والعلم، غير أن السؤال تأسيسي عند النظر إلى تلك الإشكالية الكبرى التي مضى أكثر من ثلاثة قرون على طرحها، فالإنسان على أقصى تقديرات ظهر قبل مئات الآلاف من السنين، وما يمكن الاهتداء إليه من تاريخه قد لا يتجاوز عشرة آلاف سنة، أما الكون فيمتد تاريخه إلى أكثر من (13.7) بليون سنة، ومعنى هذا أن الإنسان حديث النشأة في الكون، وإدراكه للمعارف والعلوم وتدوينها أكثر حداثة، والعقل على مستوى الخلق أو التأثير لا يُقارن عمره بعمر ذلك الكون الفسيح، فلماذا يسعى هذا العقل أن يفرض رؤيته وسيطرته على الكون، ويجاهر بالقول: أن ما يدركه ويقبله العقل هو الأصل، وما يرفضه لا وجود له؟!
منذ القرن السابع عشر تعلم البشر أن يجدوا في العقل أساسا لليقين، وتعلموا أن يستخدموا العقل على نحو أشمل من أي وقت مضى في محيط الشك، ورغم ذلك فالبشر لا يحبون العقل وحده، والإنسان لديه أكثر من العقل، لديه الرغبة والشعور والخيال والعواطف والشهوات، والتي لا يمكن ردها إلى العقل.
العدد الثالث عشر من مجلة “الاستغراب” والصادر في خريف 2018، في أكثر من 315 صفحة، يناقش إشكالية العلاقة بين العلم والدين في إطلالات عميقة المحتوى، متنوعة المشارب والرؤى، ليصل إلى الحقيقة الكبرى وهي: أن العلم والدين كفتي ميزان، وكلاهما يسير على خط واحد، وبينهما تلازم وتناغم تام، فما يُوحد العلم والدين والفلسفة على المستوى العام هو أن كلها تهدف إلى معالجة رغبة الإنسان في التفسير؛ وحاجته لفهم العالم الذي يعيش فيه، وفهم طبيعته، وكيف علينا أن يعيش.
هل يحتاج العلم إلى الدين؟
قد يبدو السؤال مستغربا وغير مألوف معرفيا، لأنه سؤال يضمر أن العلم ليس وافيا ولا كافيا بل ليس المثال الأسمى للعقل البشري، بل لا يمتلك القدرة وحده على التفسير، ويلاحظ في التجربة الغربية أن الإيمان أخذ يتراجع مع نمو المعرفة العلمية، حيث ترك الإيمان فجوات معرفية، قام العلم بملئها، وهو ما زعزع أركان الإيمان في النفوس.
يشهد تراث التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر أن هناك تسليم تام بالعقل البشري، وهو ما جعله يقترب من حافة “التأليه”، فحدث اتحاد بين العقلانية والمادية حتى أصبحتا مرادفا للإلحاد، لذا ُطرحت إشكالية اعتراف هذا العلم بالإرادة الإلهية، فالعلم في غروره بات لا يعترف بشيء خارج ذاته، ووفق هذا التصور أصبحت أحد وظائف العلم هي طرد الإيمان.
وفي عصر ما بعد الحداثة صارت هناك شكوك في العقلانية، إذ لا وجود لعقلانية جامعة، أو حقيقة تثبت من جيل لآخر، وهذه الحقيقة تعتبر تقويضا للأساس المنطقي للعلم الطبيعي، فلا يمكن أن يُعتبر العلم تطبيقا منهجيا للعقل البشري، وعلى هذا الأساس تعتبر الاكتشافات العلمية ما هي إلا تطوير لبعض الفرضيات، فالعلم لا يستطيع إدعاء الحقيقة، وحجته في استبعاد الدين وتنحيته واهية وضعيفة.
وهنا يُطرح السؤال: هل العلم والدين حقلين متواجدين ومتمايزين ولا يستطيع أحدهما أن يستبعد الآخر؟ أم أنهما حقلان بينهما اتصال رغم اختلافهما؟ هناك اتجاهات ترغب في أن يتوقف الدين عن التدخل في العلم، وأن يكتفي بمجاله الخاص، وبالتالي يصبح العلم بعيدا عن “اللاهوت”، على اعتبار أن كلا من العلم والدين له طريقه الخاص والمختلف عن الآخر.
ووفق الرؤية السابقة يمكن النظر إلى مأزق الانفصال بين العلم والإيمان في العقل ألأوروبي، فقد طرح الفيلسوف اللاهوتي السويسري”هانس كونغ” تساؤلا حول إمكانية أن تكون هناك نظرية واحدة لكل الأشياء؟ حيث يمتلك هونغ مشروعا للتلاحم بين العلم والدين ورفع التناقض بينهما، فيرى ضرورة التصدي لنزعة رد المعرفة العلمية عن طريق العقل؛ واتفق مع الفيلسوف الألماني “كانط” في قوله:”إن الدين الذي يعلن الحرب على العقل عليه التفكر في العواقب، لأنه لن يتمكن من الصمود أمامه على المدى الطويل”، كما اتفق مع مقولة اللاهوتي “جورج مولتمان:”حتى العقل، في انتصاره التنويري على ما أسماه الإيمان، لم يكن قادرا على الصمود بمفرده، بل وضع أشكالا غير معقولة”، لقد فقد العلم منذ وقت طويل عذرية بداياته الأولى، وتبخرت نشوة الانبهار به مع النصف الأول من القرن العشرين، وعلى مدى العقود المتعاقبة أصبح من الواضح أن التقدم العلمي هو أبعد عن التقدم الإنساني، فالعلم مهما كانت دقته حين يصف نفسه بالطابع المطلق يصبح خطرا.
ويرى المفكران المسلمان اللذان يعيشان في الغرب، “سيد نصر” و”مظفر إقبال” ، في حوار سابق أعادت المجلة نشره، خطورة استلهام التجربة الغربية في النهوض الإسلامي دون نقد للأسس النظرية لتلك التجربة، فالمسلم المعاصر رغم مأزقه وعدم قدرته في تجنب العيش في هذا العالم القائم على العلم والتكنولوجيا التي أنتجها الغرب وفق فلسفته، وبين متطلبات هذا العيش التي قد تؤدي إلى تدمير بعض السمات الحضارية الإسلامية، فإن المسلمين مطالبون بنقد الأسس النظرية للعلم المعاصر التي تعتمد على إهمال البعد الروحي في الطبيعة، أي إقصاء يد الله عن خلقه، وهو ما يفرض ضرورة صيانة النظرة الكونية الإسلامية بالعلم والطبيعة بغض النظر عن النتائج الدنيوية، فالتكنولوجيا المعاصرة تقوم بفرض رؤية معينة للكون على الإنسان، ثم تقوم بتحويل ذلك الإنسان بعد ذلك إلى آلة، ورغم ذلك هناك مفهوم خاطئ ظهر عند بعض المصلحين المسلمين وهو أن العلم والتكنولوجيا خاليين من القيمة، وأن المزيد من العلم يعني مزيدا من القوة، وأن التجربة الغربية تفرض الاقتداء بها في مجالي العلم والتكنولوجيا، ويؤكد الفيلسوف سيد نصر أن الغرب يدرك –حاليا- صعوبات الرهان على العلم فقط، فهناك مشكلات وأسئلة لم يستطع الغرب أن يتجاوزها.
هل المخاصمة قدر؟
هل قدر العلم الحديث أن يكون منقطع الصلة بالسماء؟ الحقيقة أن الخصومة بين العلم والدين هي نتاج الحداثة، وهي موقف فلسفي للحضارة الغربية الحديثة، ومسار انطبع في مسيرتها، فأطروحة التناقض بين العلم والدين ساريةٌ في مجمل الحقول المعرفيّة للغرب الحديث، وهناك اعتقاد بأنّ فهم العلم يُنجز وفق الشروط الخاصة به، ولا يعتمدُ على أيِّ شيءٍ خارج ذاته. هذا المعتقد هو في الواقع تظهيرٌ شديد الكثافة لميراث عصر التنوير الذي نظر إلى العالَم كآليّةٍ ماديّةٍ مستقلّة. وتبعاً لهذه النظرة عُدَّت كلّ إشارةٍ إلى الدين أمراً فائضاً عن الحاجة ونزوعاً إلى اللاَّعقلانيّة.
وفي التجربة الغربية أوشك كبار فلاسفة الحداثة وعلمائها على “تأليه” العقلانية، وغرق العقل في تقديس ذاته، وأصبحت العقلانية خطابا أحاديا ولم تُصغ للإيمان، أما العلم فلم يسع للإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالإنسان، كالحياة والموت والمصير والخير والشر، بل لم يطرحها للتساؤل ابتداءا، لذا عُدت النزعة العقلانية الغربية نسقا اعتقاديا كاملا، بديلا عن الدين، واستولت على مجمل الحضارة الغربية، ووضعت كل منجزاتها في الفكر والمعرفة والتقنية تحت سطوتها الأيديولوجية.
وقد جرى التأسيس للتناقض بين العلم والدين في التجربة الغربية، منذ القرن السابع عشر الميلادي، ففي كتاب “تقدّم التعلم” الصادر (1605) لفرانسيس بيكون، تأكيد أن كلّ حقيقةٍ يجب إخضاعها للنّقد الصارم عبر العلم التجريبي حتى تلك المتعلّقة بأكثر الاعتقادات الدينيّة قداسة، وتعد تلك لحظةٌ مفصليّةٌ في التنظير الغربي لهيمنة العلم أسست لما يمكن اعتباره فصلاً وظيفياً بين الكون وخالقه سبحانه وتعالى، وكان ذلك في الحقيقة ضرباً من علمنةٍ تعترف بالخالق وتعطل في الوقت نفسه تأثير هذا الاعتراف على الاجتماع البشري.
وتكرر الأمر بشكل آخر مع الفيلسوف الفرنسي “ديكارت“-ذلك الكاثوليكي المتدين- الذي أرد إقناع نفسه بوجود خالق للكون مع رفضه العودة إلى معتقدات الكنيسة، ومع الفيلسوف البريطاني “توماس هوبس” في أنّ العالم المادي خالٍ من الإلهي، وأنّ “الله قد كشف ذاته في فجر التاريخ البشري وسوف يكشف نفسه في نهايته… وأن علينا الاستمرار في العيش من دونه”!!، أما جون لوك، فأدخل العلمنة إلى الحيّز السياسي الاجتماعي، ورأى أن الدولة وينبغي أن تكون منفصلةً عن الكنيسة .
ومع وفورة العلم الحديث، وظهور الطابع الإلحادي للعلم الطبيعي والعالم، أصبحت أيُّ إشارةٍ إلى الله في التفسير العلمي للعالم بعيدةً وعرضيّةً بشكلٍ متزايد، ومع الوقت، أصبح الله خارجاً عن الموضوع حتى حين يجري الحديث عن الكون والأفلاك والسماوات، ومع هذا الانفصال توسّعت البيئات المتأثّرة بالنظرة الكونيّة العلميّة الجديدة على نحوٍ لم تعد تقبل فيه الإيمان الديني، ذلك لأنّ المنهجيّة الإلحاديّة للنظرة العلميّة المعاصرة قامت ببساطةٍ على إقصاء السؤال عن وجود الله.
وبعد… فإن الصراع في الحقيقة ليس بين الإيمان والعلم، بل بين إيمانٍ وعلمٍ لا يعي كلاهما بعده الصحيح، ففراغ اليقين يقيم في قلب التجربة الغربية، وهو ما يفسر عودة أسئلة الدين لتحتلّ مكانها بين مفكري الغرب، وما من ريبٍ في أن اللهفة إلى اليقين ليست سوى محاولةٍ لملء الفراغ الثاوي في قلب التجربة الحديثة.