إن العلوم الكبرى التي تنفع الإنسان في الدنيا والآخرة هي علوم الدين. ومما لاشك فيه أن أكثرها نفعاً وأعمقها أثراً في حياة المسلمين هي: علم التوحيد، وعلم الآخرة، وعلم السنن الإلهية.
علم التوحيد
إن التوحيد هو أصل الأصول، وهو قاعدة الدين الحق المنزَّل من عند الله تعالى. وكلمة التوحيد “لا إله إلا الله” لو وضعت في كفة ووضعت السموات والأرضين في كفة لرجحت هذه الكلمة العظيمة بها. وبهذه الكلمة انقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين. ولأجلها ستنصب الموازين يوم القيامة ويقام سوق الجنة والنار. وهي مناط النجاة في الآخرة ومفتاح دخول الجنة؛ لأنها حق الله تعالى على جميع العباد.
فجميع الرسل والأنبياء عليهم السلام قد أدركوا حقيقة التوحيد، وكلهم بُعثوا به، وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد الأحد. ومن ثم فإن هناك مصدر واحد لا يتعدد (وهو الوحي)، يتلقى منه البشر التصور الشامل لحقيقة الوجود، ويتلقوا منه المنهاج اللائق لحركة الحياة على سطح هذا الكوكب.
وهذا التصور والمنهاج واحد من قاعدته: رب واحد سبحانه وتعالى يُرَبِّي الجميع، خلقاً ورزقاً، تدبيراً وإحياءً وإماتةً، نفعاً وضراً. وخالق واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، لأن دقة الصنع في كل شيء، وانتظام أمر الخلق والكون في أموره الكلية والجزئية الدقيقة دليل على وحدانيته وتفرده بالخلق جلَّ وعلا. ومعبود وإله واحد يُشَرِّع ويأمر وينهى، منه يستمد الناس جميع الأحكام من حلال وحرام، كما قال تعالى:﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]. وإله فرد صمد متفرد بنعوت الجمال والجلال وصفات الكمال، له الأسماء الحسنى، وله منتهى الكمالات.
ولأجل هذا، فإن التوحيد هو الحقيقة الكبرى في الكون التي يجب على الإنسان أن يَعْلمها. فالخالق تعالى واحد، والكون بقوانينه واحد. والكون بما فيه ومن فيه يتجه إلى الله تقدست أسماؤه بالعبادة والطاعة. قال تعالى:﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: 83]. إلا من شَذَّ من الغافلين الخاسرين من الإنس والجن.
على أن أقسام التوحيد ثلاثة وهي: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات. وسينصبُّ حديثي على توحيد الألوهية؛ لأنه هو الفيصل بين الإيمان والكفر والإسلام والشرك.
وتُعد سورة “الأنعام” أكبر سورة للتوحيد في القرآن الكريم، ولذلك أطلق عليها “سورة التوحيد الكبرى”، وأطلق على سورة الإخلاص “سورة التوحيد الصغرى. وقد جاء فيها ذكر أركان “لا إله إلا الله” الثلاثة، وهي: إفراد الله تعالى بالولاء، وإفراد الله تعالى بالحكم، وإفراد الله تعالى بالنسك.
أما إفراد الله تعالى بالولاء فورد في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 14].
وأما إفراد الله تعالى بالحكم فيدل عليه قوله تعالى ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام: 114]. وأما إفراد الله تعالى بالنسك فالدليل عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162-163].
على أن الموحدين هم الفائزون والمفلحون يوم القيامة. قال تعالى في سورة المائدة: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119]. قال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية الكريمة: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، أي: يوم ينفع الموحدين توحيدهم([1]).
علم الآخرة
يُعَدُّ علم الآخرة من أشرف العلوم بعد علم التوحيد؛ لأنه يبيِّن للإنسان الطريق المؤدية إلى السعادة الأبدية. ولهذا فالمؤمن الذي أوتي العلم بالآخرة لا يتعلق قلبه بهذه الحياة، وهي سراب خادع وظل زائل وعارية ومسترجعة، ولا يُفتن بمتاعها وزخرفها الفاني.
وأما الذين لا يعلمون، فقد تعلَّقت قلوبهم بالدنيا، وفُتنوا بمتاعها وأَنسُوا به، ولا يحسبون حساباً للتبعات في الآخرة. وما أكثرهم في هذا العصر الذي طغت فيه الحياة المادية، واضمحلت فيه الفضائل والأخلاق والقيم. قال تعالى في سياق الحديث عن الكافرين: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 112-114].
أي: لو أنكم كنتم تعلمون لما آثرتم الفاني على الباقي، ولما تصرفتم لأنفسكم هذا التصرف السيء، ولا استحققتم من الله تعالى سخطه وعذابه في تلك المدة اليسيرة التي مكثتموها في الدنيا. فلو أنكم صبرتم على طاعة الله تعالى وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا بالسعادة الأبدية([2]).
فدلَّ هذا على أن علم الآخرة من أشرف العلوم بعد علم التوحيد؛ لأنه يبيِّن للإنسان الطريق السالكة إلى السعادة الأبدية في المعاد. ولأجل ذلك، فإن الذين يعلمون لابد أن يؤثروا الباقي على الفاني والأعلى على الأدنى، لما يعلمونه من أوصاف الدارين (الدنيا والآخرة) عند المقارنة بينهما. وفي هؤلاء قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9].
وفي ضوء هذه الآية الكريمة، هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم سبحانه من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك؛ فهم عن الآخرة عمون، يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيراً، ولا يخافون بسيئها شراًّ([3]).
إن أهل العقول الذكية هم الذين يؤثرون العلم على الجهل، والطاعة على المعصية، لأن لهم عقولاً صحيحة ترشدهم إلى النظر في عواقب الأمور ومآلاتها، بخلاف من لا لُبَّ له ولا عقل. فإنه تائه ضالٌّ كمن يسير في صحراء قاحلة مهلكة، بدون خريطة ولا بوصلة، فلا يعلم ولا يعرف إلا ما أُشْرب من هواه، فهو هالك لا محالة.
علم السنن الإلهية
السنن هي قوانين الله تعالى في الكون. وهي الطريقة المتبعة في معاملة الله عزوجل للبشر بناءً على سلوكهم وأفعالهم ومواقفهم من شرع الله تعالى ورسله، وما يترتَّب على ذلك في الدنيا والآخرة من عقاب وثواب.
قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]. وقال تعالى عن الأمم السابقة: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [الأنعام: 6]. وقال تعالى في سياق الحديث عن قوم نوح وعاد وثمود وآل فرعون وقوم لوط وأصحاب الأيكة: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص: 14].
ولهذا فإن السير في الأرض ينبغي أن يكون بالأبصار والقلوب للاعتبار والتفكر في قصص الأمم الخالية، للفت الانتباه إلى ما آلت إليه تلك الأمم والجماعات البشرية من الهلاك والدمار الذي حاق بها حين أصرت على الشرك والكفر، وعاندت الرسل عليهم السلام، وارتكبت المعاصي، واستحلت ما حرَّم الله جلَّ ذكره.
فمن سنن الله تعالى في الخلق زوال النعم وحلول العقوبات حين يفشو في المذنبين والعصاة ظهور الفواحش والجهر بالمعاصي، وتطفيف الكيل، ونقض العهد، وعدم تحكيم شرع الله في شؤونهم، فيأخذهم الله جل ثناؤه حينئذ بالسنين والقحط، ويبتليهم بالأمراض والفقر وغلاء الأسعار، ويسلط عليهم ولاة الجور بما كسبت أيديهم، ويجعل بأسهم بينهم.
فمن حديث ابن ماجة بسنده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “إن رسول الله ﷺ أقبل علينا بوجهه فقال: “يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهنَّ. ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسِّنين وشدة المؤنة وجَوْر السلطان… ولم تحكم أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم“([4]).
ومن حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: “ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلّوا بأنفسهم عقاب الله عزوجل”([5]).
ومن حديث بُرَيْدة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “… ولا منع قوم الزكاة إلا حُبِس عنهم القطر“([6]).
وهذا يبين شؤم المعاصي وعاقبتها الوخيمة. ولذلك يجب اجتنابها والابتعاد عنها، والإقبال على الطاعات. فمن استحل المعاصي وأدمن عليها حصدته سنن الله تعالى.
إن أية أمة من الأمم لا يستقيم حالها إلا إذا فهمت النظام الإلهي في ضوء علم السنن، وانسجمت حياتها وتكيفت مع هذا النظام، وأحسنت التعامل معه. فالسنن هي القناة التي تصل بواسطتها إلى تسخير ما في هذا الكون، والإفادة منه، واتقاء ضرره، واتقاء سخط الله وعقوبته، حيث جعل الله عزوجل هذه السنن نظاماً للحياة وطريقاً إلى السعادة أو الشقاء في الدنيا والآخرة.
وفي ضوء ما سبق، فإن معرفة علم السنن بصورة صحيحة هو الطريق الوحيد المأمون إلى:
- تحديد موقع الإنسان في هذا الوجود ودوره وقيمته بين مكوناته.
- ردّ كل حادثة وكل ظاهرة إلى سببها الطبيعي الشرعي.
- إبراز حكمة الله تعالى من وراء خلق هذا الكون، وجدية الحياة، وخلوها من العبث، وثبات سننها وصرامتها وإطرادها.
- تفسير حركة المجتمعات الإنسانية قاطبة في الماضي والحاضر والمستقبل تفسيراً شاملاً وصحيحاً في ضوء السنن الربانية.