عندما نفتح أعيننا ونُطل على العالم من حولنا، قد يبدو لنا أن عملية الرؤية تحدث بشكل تلقائي وسلس، وكأنها نتيجة بسيطة لفتح الجفون واستقبال الضوء. لكن خلف هذا المشهد اليومي العادي، تكمن واحدة من أعقد العمليات البيولوجية والعصبية التي يشارك فيها اثنان من أذكى أعضاء الجسم: العين والدماغ. هذه الشراكة بينهما لا تقتصر على نقل الصورة، بل تمتد إلى تحليلها، وفهمها، والتفاعل معها بشكل لحظي ودائم.

العين، في حد ذاتها، ليست سوى جهاز بصري عالي الحساسية، مصمم لالتقاط الضوء وتحويله إلى إشارات كهربائية. ولكن بدون الدماغ، تبقى تلك الإشارات غير ذات معنى. فالدماغ هو من يمنح المشهد روحه ومعناه، وهو الذي يربط بين ما نراه وبين ذاكرتنا ومشاعرنا ولغتنا وتجاربنا السابقة. بمعنى آخر، لا نرى بأعيننا فقط، بل نرى بعقولنا. هنا يتجلّى الإبداع الإلهي في التكامل بين الخلق البيولوجي والهندسة العصبية المعقّدة.

إن الرؤية هي تجربة إدراكية مركّبة، فيها تتداخل الفيزياء والكيمياء والذكاء العصبي والخبرة الإنسانية في لحظة خاطفة من الزمن. وبهذا المعنى، فالرؤية ليست مجرد استقبال للضوء، بل هي إدراك للعالم، وهذا ما يجعل كل نظرة تحمل خلفها ملايين الخلايا العصبية، وآلاف الإشارات، ومئات من التفاعلات الكيميائية التي تجتمع لتكوّن لنا صورة واحدة ذات مغزى.

كيف يعالج الدماغ الصور الملتقطة من العين؟

تبدأ عملية الرؤية عندما يدخل الضوء إلى العين، ويُركّز من خلال العدسة على الشبكية التي تحتوي على ملايين الخلايا الحساسة للضوء، تحوّل هذه الخلايا الضوء إلى نبضات كهربائية تنتقل عبر العصب البصري نحو الدماغ. عند هذه المرحلة، تتسلّم القشرة البصرية الموجودة في الفص القذالي من الدماغ هذه الإشارات وتبدأ في فك شيفرتها. يقوم الدماغ بتحليل الألوان، وتمييز الأشكال، وتقدير المسافات، كما يدمج الصورتين القادمتين من كل عين ليصنع رؤية ثلاثية الأبعاد.

لكن الأمر لا يتوقف عند المعالجة الفيزيائية، فالدماغ يستعين بالذاكرة والخبرة والتوقعات لتفسير ما نراه. أي أن الرؤية ليست مجرد استقبال للمشهد، بل هي عملية إدراك مركبة، تشمل ما نتوقع رؤيته بناءً على تجارب سابقة. أحيانًا، يعيد الدماغ ترتيب الصورة أو يكمّل أجزاء ناقصة اعتمادًا على “التخمين الذكي”، مما يجعلنا نرى ما لا يُرى فعليًّا في الواقع.

الدماغ والعين في علم النفس والإدراك

في علم النفس المعرفي، تُستخدم دراسات العين والدماغ لفهم كيف ننتبه، نركّز، ونفهم ما نراه. مثلًا، أظهرت الأبحاث أن العين تركز تلقائيًا على الوجوه، ثم تُرسل إشارات إلى الدماغ لتحليل المشاعر من خلال تعبيرات الوجه. كما تُستخدم اختبارات تتبع حركة العين لدراسة اضطرابات مثل التوحد واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. حتى في عالم التسويق، تستخدم الشركات تقنية تتبع العين لفهم سلوك المستهلك وتحديد المناطق الأكثر جذبًا للانتباه في الإعلانات.

ما هو الخداع البصري؟ وكيف يخدعنا الدماغ؟

خداع البصر اسم نطلقه على رؤيتنا لشيء ما بأعيننا، فيبدو لنا بصورة نعلم أنها ليست الحقيقة، وهو خاصية ديناميكية تعطي إحساسًا بالحركة لدى المتلقي، كما أنه ظاهرة ضوئية ينتج عنها ألا تظهر الأجسام على حقيقتها أمام العين نتيجة لوجود مؤثرات حسية أو ضوئية تسبق الرؤية أو تحيط بها.

خداع البصر انطباع خاطئ يحدث عند المشاهد يخالف الحقيقة، ولا يقتصر الخداع على حاسة البصر فقط، بل يمتد ليشمل الحواس الأخرى، كاللمس والسمع والشم والذوق.. لكننا سنقتصر في هذا المقال على الخداع البصري، وهو أن يرى الناظر الصورة التي أمامه على غير حقيقتها، وذلك بسبب خداع أو تضليل الرؤية، حيث يحدث الخداع البصري نتيجة أن المعلومات التي تجمعها العين تُعالج في الدماغ بطريقة خاطئة تعطي نتائج غير مطابقة للواقع والحقيقة. والخداع البصري عمليًّا هو الاحتيال على العين، ويمكن تعريفه باعتباره “الغش البصري” عندما تنخدع العين بحيث تتخطى المعرفة المنطقية للعقل.

وقد أخبر القرآن منذ مئات السنين عن ظاهرة الخداع البصري والوهم التخيلي، التي استعملها سحرة فرعون من قبل ليكتشف العالم حقيقة هذه الظاهرة. فالعلم الحديث لم يدرك حقيقة الخداع البصري إلا بعدما أدرك التكوين العضوي للعين، وطريقة عمل النظام البصري وعلاقته بالدماغ، بينما أشار الله تعالى إلى ذلك في كتابه منذ مئات السنين وبمصطلحات دقيقة “سحر الأعين”، “خُيِّل”.. قال تعالى: { قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } (الأعراف: 116).

كيف يتم “تزييف” الواقع داخل المخ؟

وتتجلى عبقرية هذه الشراكة البصرية الخارقة بين الدماغ والعين في ظواهر مدهشة مثل الخداع البصري، حيث نكتشف أن ما نراه ليس دائمًا انعكاسًا دقيقًا للواقع. هل تظن أن كل ما تراه حولك حقيقي، وأن كل الصور والألوان والأشكال التي تراها يوميًّا هي بالفعل ما تراه؟ إنّ عالمنا مليء بالخدع البصرية التي تترك أدمغتنا في حالة حيرة وارتباك.. فكيف ستشعر لو أدركت أن كثيرًا مما تراه حولك ليس حقيقيًّا، بل هو مجموعة من التفسيرات التي يقدمها دماغك كتخمين أفضل، ليجعل العالم يبدو أكثر منطقية بالنسبة لك؟ هذه الصور ليست مجرد لعبة للتسلية، بل هي تطبيق لظاهرة علمية موجودة في كل ما حولنا، في التكنولوجيا والفنون وحتى الطبيعة.

هذه الظاهرة هي ظاهرة الخداع البصري التي تجعلك ترى الكثير من الأشياء بطريقة تختلف عن حقيقتها، والتي أصبحت علمًا يدرسه العلماء في عدة مجالات منذ مئات السنين، ووسيلة تعتمد عليها الكثير من أشكال الفن والتكنولوجيا.. فما الخداع البصري؟ وكيف يمكن أن تتحول حقيقة الأشياء أمام أعيننا دون أن نلاحظ؟ وهل يمكن أن يعتمد العلم على الوهم والخيال؟

هل ترى الكائنات الأشياء كما نراها؟

تختلف آلية الرؤية بشكل مذهل بين الكائنات الحية. فبينما يعتمد الإنسان على رؤية ثلاثية الأبعاد وألوان محدودة، تستطيع بعض الطيور والحشرات مثل النحل رؤية الأشعة فوق البنفسجية، في حين تتمتع بعض الزواحف والأنواع البحرية بقدرة على رؤية الأشعة تحت الحمراء. كما أن الحبار والأخطبوط لديهم عيون معقدة قد تتفوق من حيث الدقة على عين الإنسان. هذه الفروقات تبيّن أن الرؤية ليست حقيقة واحدة، بل تجربة تختلف حسب احتياجات الكائن وبيئته.

تطبيقات علم الرؤية في الطب والتكنولوجيا

إن فهم العلاقة بين العين والدماغ لم يقتصر على الجانب النظري فقط، بل أدى إلى تطورات مذهلة في مجالات متعددة، سواء في الطب أو التكنولوجيا الحديثة. ففي مجال الطب، شهدنا تطورًا كبيرًا في تصميم “العيون الصناعية” أو الشبكيات الإلكترونية، وهي أجهزة تُزرع في العين أو تتصل مباشرة بالقشرة البصرية، وتساعد الأشخاص المصابين بالعمى الجزئي أو الكلي على استعادة القدرة على تمييز الأشكال والحركة.

كذلك، ساهم هذا الفهم الدقيق في تطوير تقنيات تشخيص مبكر لأمراض مثل الجلوكوما (الزَّرَق)، واعتلال الشبكية السكري، والتنكس البقعي المرتبط بتقدم العمر. كما أصبحت الجراحات الدقيقة للعين أكثر أمانًا وفعالية، بفضل الأجهزة التي تعتمد على التصوير العصبي وربط البيانات البصرية بنشاط الدماغ لحظة بلحظة.

أما في عالم التكنولوجيا، فقد فتحت العلاقة بين العين والدماغ آفاقًا واسعة للابتكار. اليوم، تُستخدم تقنية تتبع حركة العين في تصميم واجهات المستخدم التفاعلية، وتُوظّف في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لفهم سلوك الأفراد وأنماط انتباههم. أصبحت النظارات الذكية وأجهزة الواقع الافتراضي والواقع المعزز أدوات تعتمد على محاكاة الدماغ البشري في تحليل العمق والبعد والحركة، لتقديم تجربة بصرية قريبة من الواقع، بل وأحيانًا تفوقه في التفاصيل والدقة.

ولم يتوقف الأمر عند الاستخدامات الترفيهية أو العلاجية فقط، بل امتد إلى ميادين مثل الطيران، والتعليم، والهندسة، والروبوتات. ففي الطائرات الحديثة، تُستخدم أنظمة مدمجة مع حركة عين الطيار لتقليل زمن الاستجابة. وفي التعليم، تُساعد أدوات الواقع المعزز على خلق بيئة تعلم بصرية تفاعلية تُشرك الدماغ في الفهم لا الحفظ فقط. أما في الروبوتات، فصُممت كاميرات ذكية تعتمد على خوارزميات مستوحاة من طريقة الدماغ في تحليل الصور واتخاذ القرارات بناءً عليها.


خاتمة

في ضوء ما رأيناه من تكامل مذهل بين العين والدماغ، ندرك أن الرؤية ليست مجرد انعكاس للضوء على شبكية العين، بل تجربة معقدة تتجاوز حدود البصر إلى الإدراك والتفسير والخيال. إنها شراكة فائقة الذكاء تُنتج لنا عالمًا نراه ونفهمه ونتفاعل معه، بينما يدور خلف الكواليس عمل عصبي هائل لا نشعر به. لقد أظهرت لنا الخدع البصرية أن الدماغ لا يكتفي بنقل الواقع، بل يعيد صياغته أحيانًا وفقًا لتوقعاته وخبراته. وبينما نعتقد أننا نرى بعيننا، فإن الحقيقة أن الدماغ هو من يمنح المعنى لكل ما يدخل إلى هذا العضو الصغير والدقيق. إنها معجزة متكررة، تحدث في كل لحظة، دون أن ندرك عمقها أو تعقيدها. وتتكشف أمامنا في النهاية حقيقة مذهلة، علمية وروحية في آنٍ واحد: أن الإنسان ليس مجرد كائن يرى، بل مخلوق مُعقّد تنطوي في كل “نظرة” منه آلاف العمليات الخفية التي تتناغم بانسجام لا يُصدَّق. وما يبدو لحظة بصرية عابرة، هو عمل مشترك بين العين والعقل، يصنع لنا عالماً نعيشه، ونفهمه، ونمنحه معنًى في كل لحظة من وجودنا.