التراث.. من التكوين إلى المراجعات
كتاب “المحصول” للإمام الرازي، مع كتاب “إحكام الأحكام” للآمدي يعتبران أهم كتابين آل إليهما علم أصول الفقه، ولذا فإن تحقيق أحدهما بمثابة غوص في بحر بعيدة شطآنه… وهذا ما فعله العلواني حينما اختار تحقيق “المحصول” أو اختاره له القدر.
لقد غاص الرجل في التراث غوصا عميقا، فعلم الأصول حين تتعامل معه فأنت تتعامل مع علم يشتمل على حديث، وتفسير، ولغة عربية، وفقه، وعقائد، وعلم كلام.. وسائر علوم الشريعة ربما، ومع الرازي تحديدا أنت تقرأ شرحا وزبدة لأمهات كتب الأصول كمستصفى الغزالي، و”المعتمد” لأبي الحسين البصري المعتزلي، و”العمد” لشيخه عبد الجبار، و”البرهان” لإمام الحرمين..
وهذا يعني أن الجسد التراثي لكل العلوم الشرعية موجود على طاولة الجراحة… ومبضع الجراح الماهر حتما سيرى نقاط قوته، كما سيلحظ نتوءات ضعفه ووهنه.
من هنا كان العلواني على موعد بطبيعته التي لا تمل السؤال والتفكير مع مواجهات من نوع خاص.. إنها مواجهة فكرة مناطق “ممنوع الاقتراب” داخل هذا الجسد، فكرة المقدس داخل تراث العلوم الشرعية..
وبدأت بالفعل المواجهة باستدراكات على الرازي، ربما استسيغت بعضها بحكم كونه يمارس تحقيقا علميا، لكن الاستدراكات زادت وطالت مناطق في صميم ما اعتبره شيخه “عبد الغني عبد الخالق” ثوابت لا ينبغي لباحث كالعلواني وقتها أن يجترئ على المساس بها، وثارت بينهم جدالات ما بين الأستاذ وتلميذه.. فكان الأستاذ يعجب بتلميذه ويحاوره، ويقدم له تأويلات لبعض ما ينتقده على الإمام الرازي وغيره.
الشافعي في رأيي لم يكن يرى النسخ، ولكنه حاول أن يقدم حلا سياسيا توفيقيًّا ينسجم مع شخصيّته وموقعه
فقضية النسخ مثلا من المسائل التي بدأت مع العلواني حين تحقيقه المحصول يقول عنها: “مسألة النسخ مثلا كان الإمام الشافعي رحمه الله، يرفض فكرة نسخ القرآن بالسنة، و كنت معجبا برأي الشافعي، وأظن أنه كان يريد أن ينفي النسخ أصلاً، لكنه لم يجترئ، والدليل أنه علل ذلك بأنه لو نسخ القرآن السنة والعكس، فكأن الله عز وجل يبطل أقوال نبيه، وكأن النبي ﷺ يبطل قول الله تعالى، وهذا التعليل وحده ينفي النسخ كله، فإذا لم ينسخ الله تعالى قول نبيه فلماذا ينسخ قوله هو جل شأنه؟ فالشافعي في رأيي لم يكن يرى النسخ، ولكنه حاول أن يقدم حلا سياسيا توفيقيًّا ينسجم مع شخصيّته وموقعه..
وكان رد شيخه عليه حسبما نقل هو: يا ابني نحن مقلدون، ولا شأن لنا بالأئمة الكبار فإذا أردت أن تكتب في هذا فاكتب دفاعا عن رأي الشافعي، لكن لا تصرح بعدم الأخذ بالنسخ.
لكن العلواني لم يستسلم لشيخه، وكتب تعليقا لم يزل موجودا في المحصول، وقال: إن هذا الرأي لو أمكن له أن يمتد لوجدنا الإمام الشافعي ممن ينفي النسخ، وحسب روايته فقد قرأه على شيخه، فعدل فيه، وحاول أن يضغط عليه أكثر كي يعتبر ما قاله الشافعي غلطة كما اعتبرها بقية العلماء، لكن العلواني لم يستسلم لشيخه!!
ومن هنا نمت نزعة المراجعة لدى العلواني، صحيح أنها لم تكن بهذا النضج الذي يمارسه الآن، لكنها في النهاية أضحت ميراثا تركه تحقيق المحصول لديه، حيث فجر بداخله أسئلة وقلقا نحو الكثير من المسائل التراثية، وعليه بدأت متوالية تفتيش الرجل داخل مخزون التراث الفقهي والأصولي.
لا إكراه.. حدود الحدود
يبدو أن الشرارة الأولى للجدل حول العلواني وفكره قد انطلقت ربما مع كتاب “لا إكراه في الدين.. إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم” والذي بحسب العلواني نمت فكرته، وربما الـ “ماكيت” الخاص به وقت ابتلائه بسؤال عن جواز إعدام الشيوعيّين العراقيّين، وكتبها بعد صحبة طويلة للغزالي في الجزائر ومصر وماليزيا.
وقد قرأ الغزالي مذهب العلواني في الردة حسب العلواني، وأكد له أن مثل تلك الآراء ستفتح عليه وابلا من الاتهامات، وسيعارضه الكثيرون وربما اتهموه في دينه وعقيدته، فسأله العلواني: وماذا عن موقفك وقتها؟ فأجابه الغزالي مبتسما: لئن أدركني يومك أنصرك!!
الدليل لا ينسخ إلا بدليل مثله أو أعلى منه رتبة، وآية السيف التي يتحدث البعض عن نسخها لتلك الآيات مختلف فيها وفي المراد بها
ولقد بنى العلواني كتابه على ما يمكن أن نسميه الحكم أو القرار الإلهيّ بالحرية المطلقة لبني البشر، وهو ما أظهرته نصوص القرآن الكريم ابتداء في أكثر من 200 آية ترسخ هذه الحرية بكل معانيها، ثم رسخه “التأويل” النبوي، بوصفه التطبيق الفعلي لهذه النصوص القرآنية.. كما يفهمه العلواني.
وبحسب الكتاب فإن حرية الاعتقاد من أسمى تلك الحريات التي شدد عليها القرآن الكريم بالآية “القانون” في سورة البقرة ” لا إكراه في الدين..” فهي عامة في الزمان والمكان والأشخاص، لا تقبل نسخا لعمومها المطلق، وورودها بصيغة هي أقرب للخبر.
وحتى إن قبلت نسخا حسب من يعتقد بوجود النسخ، فإنّ من القواعد الأصولية أن الدليل لا ينسخ إلا بدليل مثله أو أعلى منه رتبة، وآية السيف التي يتحدث البعض عن نسخها لتلك الآيات مختلف فيها وفي المراد بها على أقوال كثيرة، وبالتالي فهي غير متعينة في قتل المرتد، وهذا مما يضعف الاستئناس بها نسخا لدليل بقوة ووضوح آية ” لا إكراه في الدين..”
هكذا على مستوى التفاصيل يؤصل العلواني فكرته بكل مفرداتها، وعلى مستوى المنهج يلفت إلى أمر غاية في الأهمية يتصل بأصل التعامل مع التراث، وفكرة المقدس بداخله، ذلك أن نصوص القرآن الكريم انزاحت من قيادة العقل المسلم لصالح مقدسات أخرى بفعل عوامل كثيرة أسهب العلواني في شرح أبعادها.
كما لم يفته وهو يتحدث عن بناء منهج جديد، أو بالأحرى إعادة إحياء منهج جيل التلقي _كما يسميه في مواضع كثيرة من كتبه_ أن يؤكد على ضرورة الوعي بأصول الرسالة المحمدية وخصائصها، ووجود تداخل بين الثقافات والحضارات والأديان، تؤدى بوعي كامل ممن يتولون كبرها لتشويه أهم معالم الرسالة المحمدية الخاتمة، والتي من أهم محدداتها الرحمة والتيسير، بحسب تعبيره.
المكتبة القرآنية
طبعي في منهج تلك بدايته أن يصل إلى تلك النتائج.. بمعنى أن محاولة التعامل مع القرآن كأصل أو بتعبير العلواني كـ” منشئ للأحكام” لا بد وأن يقود إلى محاولة وزن التراث بميزانه، ورد كل المعارف النقلية التي أنتجها العقل الإسلامي على مر العصور إليه، في محاولة للوصول إلى حالة من ضبط تلك العلوم بالبوصلة القرآنية.
ولذا حاول العلواني أن يقف مع القرآن الكريم في خطوة ربما كانت مستغربة من البعض على فقيه يرون عمله محصورا في الأحكام والفتاوى.. لكن الأمر مع العلواني مختلف.. فهو فقيه يرى الفقه الحضاري المستوعب لحركة الحياة هو الأصل، لا الفقه الحكمي الجزئي الذي يمثل قيدا على تلك الحياة ويشل حركتها بافعل ولا تفعل.
الفقه الحضاري المستوعب لحركة الحياة هو الأصل، لا الفقه الحكمي الجزئي الذي يمثل قيدا على تلك الحياة ويشل حركتها بافعل ولا تفعل
وبالتالي كان الوقوف مع القرآن من خلال محاولة تحديد منهج معرفي قرآني في كتابه ” نحو منهجية معرفية قرآنية” ثم قراءة أزمة الإنسانية من خلال النص القرآني، في كتابه المعنون: “الأزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها” وأيضا محاولته فهم الكون من خلال النص القرآني في كتابه: “الجمع بين القراءتين.. قراءة الوحي وقراءة الكون” وأيضا كتاب ” الوحدة البنائية في القرآن الكريم” إضافة لغيرها من الكتب التي تضمنتها مكتبة العلواني القرآنية.
على كل.. يبقى من العلواني محاولته الدؤوبة ممارسة الفكر داخل منظومته التراثية، والتي ربما جرت عليه عذابات كثيرة.. لكنها في النهاية فوق أنها تضيء مشعل نور أمام الأمة فهي _لو خلصت النية_ تعد من أجَلِّ القربات إلى الله عز وجل.
وهنا نذكر بأن ابن تيمية قد سجن بسبب ثلاثة قضايا اختلف فيها مع الجمهور، ومات في سجنه، وشيّع منه إلى قبره، وبعد قرون اكتشفنا أنّه شيخ الإسلام ومرجع الأمّة!! وصرنا نقلده ونكرمه ولا ندعوه إلا شيخ الإسلام؛ فهل يكون مصير كثير من علمائنا أصحاب أطروحات التجديد _ومنهم العلواني_ كمصير ابن تيميّة ؟ سؤال ربما اكتشفنا إجابته أيضا بعد عدة قرون!!