هل يمكن للآلة أن تعي؟ في زمن تسارع فيه الذكاء الاصطناعي ليغزو كل تفاصيل حياتنا، يطفو على السطح سؤال عميق لا يمكن تجاهله: هل الآلة تفكر فعلًا، أم أنها مجرد مرآة لوعينا البشري؟

ما كان يومًا حكرًا على الميتافيزيقا، أصبح اليوم تحديًا علميًا تقنيًا: فهم الوعي، إدراك المعنى، تمييز الذكاء الحقيقي عن محاكاته. لقد انتقلنا من تأملات ديكارت ولايبنتز إلى تجارب جون سيرل ونقد هوبرت دريفوس، حيث تلتقي الفلسفة مع علوم الحوسبة في نقطة محورية واحدة: ما معنى أن تكون واعيًا؟

كل خوارزمية تُكتب، وكل روبوت يُبرمج، يحمل في طياته محاولة جديدة للإجابة عن سؤال قديم: ما الذي يجعلنا بشرًا؟ وهنا تبرز أهمية كتاب الفلسفة في الذكاء الاصطناعي كدليل فكري عميق يعيد للإنسان وعيه بأسئلته الكبرى، وسط صخب التطور التقني المتسارع.
مثل هذه الأسئلة لا يجب أن تترك في طي النسيان. فلنستكشف هذا الموضوع الفلسفي-التقني العابر للعصور، من خلال رحلة في فهم العلاقة المعقدة بين العقل والآلة، بين الأسطورة واللوغوس، وبين الإنسان وظله الرقمي.

من الصمت الميتافيزيقي إلى الضجيج الخوارزمي

منذ فجر الفلسفة، والإنسان يطرح الأسئلة الكبرى حول ماهيته: ما هو الفكر؟ كيف يتشكل الوعي؟ وما الذي يميز عقلنا البشري عن سائر الكائنات؟ ظلت هذه الأسئلة لقرون طويلة حبيسة التأمل النظري والنقاشات الميتافيزيقية. لكن اليوم، وفي خضم الثورة الرقمية، خرجت هذه الأسئلة من صمتها الفلسفي لترتدي ثوبًا جديدًا وتتجسد في صورة خوارزميات ودوائر إلكترونية. لقد أصبحنا أمام لحظة تاريخية فريدة، حيث لم تعد الآلة مجرد أداة صماء، بل أصبحت مرآة نعيد من خلالها النظر في أعمق ألغاز وجودنا.

غلاف كتاب يحمل عنوان الفلسفة في الذكاء الاصطناعي، يظهر تصميم بسيط مع رسمة لرأس بشري وخطوط متشابكة تمثل الشبكات العصبية. الكتاب يناقش العلاقة بين الفلسفة والتكنولوجيا الحديثة.

في هذا السياق المعرفي المضطرب والمثير، يأتي كتاب “الفلسفة في الذكاء الاصطناعي: من التنظير إلى الممارسة الإبيستيمولوجية” للأستاذ إبراهيم كراش، لا كإضافة جديدة إلى المكتبة العربية، بل كبوصلة ضرورية ترشدنا في هذا التيه الفكري. لا يكتفي كتاب الفلسفة في الذكاء الاصطناعي بتقديم الذكاء الاصطناعي كموضوع للتأمل الفلسفي، بل يغوص أعمق من ذلك ليثبت أن هذا المجال، في جوهره، هو ممارسة فلسفية بامتياز؛ إنه امتداد معاصر لرحلة العقل البشري الأزلية في البحث عن ذاته، ولكن هذه المرة عبر وسيط جديد: الآلة الذكية.

كتاب الفلسفة في الذكاء الاصطناعي من تأليف الدكتور إبراهيم كراش وهو أستاذ في الإبيستيمولوجيا وفلسفة العلوم في جامعة قاصدي مرباح – بولاية ورقلة في الجمهورية الجزائرية. نشر كراش الكثير من الدراسات؛ منها: “التفسير الاصطلاحي عند بوانكاريه”؛ “مشكلات الأنثروبولوجيا الفلسفية”، ومن مؤلفاته أيضا: دراسات في فلسفة العلوم؛ النزعة المواضعاتية في إبيستيمولوجيا العلوم عند هنري بوانكاريه.​

من حلم ميكنة الفكر إلى ولادة “اللوغوس” الرقمي

لم يولد الذكاء الاصطناعي من رحم الحوسبة وحدها، بل إن جذوره تمتد عميقًا في تربة الفكر الفلسفي. يوضح كتاب الفلسفة في الذكاء الاصطناعي أن حلم “ميكنة الفكر” هو حلم قديم راود الفلاسفة والمفكرين عبر العصور.

الجذور الأولى:

في العصور الوسطى، حاول الفيلسوف ريموند لول تصميم “آلة منطقية” رمزية قادرة على توليد الحقائق. وفي القرن السابع عشر، صنع بليز باسكال آلته الحاسبة الميكانيكية. لكن النقاش الفلسفي الحقيقي بدأ مع ثنائية ديكارت الذي جزم بأن الآلات لن تتمكن أبدًا من التفكير الحقيقي، لأن الوعي واللغة سمتان إنسانيتان تتجاوزان حدود الميكانيكا. في المقابل، وضع غريمه الفكري جوتفريد لايبنتز حجر الأساس للفكر الحاسوبي حين رأى أن الفكر البشري ما هو إلا نظام من الرموز القابلة للحوسبة.

الولادة العلمية:

مع تطور المنطق الرمزي على يد جورج بول، وولادة آلة تورنغ النظرية، تحول الحلم إلى واقع. تأسس علم الحوسبة، وعُقدت ندوة دارتموث عام 1956 التي صاغت مصطلح “الذكاء الاصطناعي” رسميًا، مطلقةً مشروعًا علميًا طموحًا يهدف إلى محاكاة القدرات البشرية العليا كالرؤية، واللغة، والاستدلال.

لكن كتاب الفلسفة في الذكاء الاصطناعي يطرح السؤال الجوهري: هل نجحنا حقًا؟ الإجابة هي أننا ما زلنا بعيدين عن تحقيق ذكاء عام مماثل للبشر. فإشكالية تعريف “الذكاء” ذاته لا تزال عالقة، مما يجعل مهمة محاكاته تحديًا إبستيمولوجيًا هائلًا.

تشعب المفاهيم والنقد الفلسفي المعاصر

الذكاء الاصطناعي ليس علمًا موحدًا، بل هو ميدان شاسع تتصارع فيه رؤى وتخصصات مختلفة: من المعلوماتية وعلوم الأعصاب إلى اللسانيات وعلم النفس. هذا التنوع أدى إلى ظهور تعريفات متعددة للمجال:

  • الذكاء الاصطناعي الرمزي (Symbolic AI): يركز على تمثيل المعرفة في صورة قواعد منطقية ورموز، وهو النهج الذي ساد في البدايات.
  • الذكاء الاصطناعي الاتصالي (Connectionism): يركز على محاكاة بنية الدماغ البيولوجية عبر الشبكات العصبونية الاصطناعية، وهو أساس ثورة التعلم العميق الحالية.
  • الذكاء الاصطناعي الوظيفي (Functionalism): يرى أن الذكاء هو مجموعة من الوظائف التي يمكن تنفيذها بغض النظر عن المادة التي صنعت منها (سواء كانت خلايا عصبية أو سيليكون).

هذا التداخل المعرفي فتح الباب على مصراعيه أمام الفلسفة لتجديد أدواتها وأسئلتها. لكنه أيضًا أثار انتقادات فلسفية عميقة، أبرزها:

  • نقد جون سيرل (تجربة الغرفة الصينية): يجادل سيرل بأن الآلة، حتى لو نجحت في معالجة الرموز وتقديم إجابات صحيحة، فإنها تفتقر إلى الفهم الحقيقي (Semantics). فالآلة تتعامل مع “الصياغة” (Syntax) وليس مع “الدلالة”، وبالتالي هي لا “تفهم” ما تفعله.
  • نقد هوبرت دريفوس (النقد الفينومينولوجي): يرى دريفوس، متأثرًا بفلسفة هايدجر وميرلو-بونتي، أن الذكاء البشري ليس نظامًا صوريًا منفصلًا، بل هو متجذر في الجسد والعالم (Embodied and Situated). نحن نفهم العالم لأننا نملك أجسادًا نتفاعل بها معه، ولدينا خبرات وتاريخ وسياق. الآلة، بانفصالها عن الجسد والعالم، تفتقر إلى هذا “الفهم الضمني” الذي يشكل أساس معظم ذكائنا.

الذكاء الاصطناعي بين الأسطورة والعقل (Mythos and Logos)

يوضح كتاب الفلسفة في الذكاء الاصطناعي ببراعة أن الذكاء الاصطناعي ليس نتاجًا علميًا محضًا، بل هو استمرار لمسار ثقافي وفكري طويل، يمتزج فيه الحلم الأسطوري بالعقلانية الصارمة.

  • الأسطورة (Mythos): لطالما حلم الإنسان بخلق كائنات ذكية تشبهه، من أسطورة “بجماليون” اليونانية إلى “غولم” في التراث اليهودي. كان هذا الحلم يمثل رغبة الإنسان في تجاوز حدوده وصناعة شبيه له.
  • العقل (Logos): مع بزوغ الفكر العلمي، تراجع هذا الحلم الأسطوري ليحل محله خطاب عقلاني جديد، قائم على التجريب والنمذجة الرياضية والمنطقية. الذكاء الاصطناعي، في جوهره، هو محاولة لتحويل الأسطورة إلى “لوغوس”، أي إلى نظام عقلاني قابل للفهم والتحقيق.

يتتبع المؤلف هذا المسار عبر فصول كتاب الفلسفة في الذكاء الاصطناعي، موضحًا كيف أن مشروع الذكاء الاصطناعي، على غرار فلاسفة ما قبل سقراط، يسعى إلى استبدال التفسيرات الأسطورية للعقل بتفسيرات عقلانية ونموذجية.

الذكاء الاصطناعي كفلسفة تطبيقية

في ختام هذه الرحلة الفكرية، نصل إلى حقيقة مفادها أن العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي ليست علاقة خارجية بين مجالين منفصلين، بل هي علاقة تماهٍ وتداخل في صميم البحث عن ماهية الوعي. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد موضوع جديد تتناوله الفلسفة، بل هو فلسفة تطبيقية في حد ذاته.

إنه يجبرنا على إعادة التفكير في كل شيء: ما معنى أن نفهم؟ هل الإرادة الحرة مجرد وهم؟ هل يمكن فصل الذكاء عن الجسد؟ وهل يمكن للوعي أن ينبثق من مادة غير عضوية؟ كل خوارزمية نكتبها، وكل شبكة عصبونية ندربها، هي في الحقيقة تجربة فلسفية نحاول من خلالها اختبار فرضياتنا حول العقل.

إن كتاب إبراهيم كراش “الفلسفة في الذكاء الاصطناعي” يوقظ فينا هذه الأسئلة الكبرى، ويؤكد أننا في بداية عصر جديد، لن تكون فيه الفلسفة مجرد ترف فكري، بل ستكون ضرورة حتمية لفهم أنفسنا، وتوجيه تقنياتنا، ورسم ملامح مستقبلنا في عالم تشاركنا فيه آلات تفكر، أو على الأقل، توهمنا بأنها تفكر.