دخول الرقمية في كافة تفاصيل حياتنا، طرح تحديات مغايرة، فبات السؤال الأكثر إلحاحا، هل يمكن للرقمية وتطورات الذكاء الاصطناعي أن تكون بديلا عن العلاقات الإنسانية والاجتماعية؟ وهل هناك سعي بشري، في ظل الفراغ الروحي ، للانتقال من معايشة الكلاب والقطط ، نحو الذكاء الاصطناعي؟ أو بعبارة أكثر وضوحا هل يصلح الذكاء الاصطناعي كبديل عن كل ما يحمل بصمة الروح والحياة؟ نظرا لأن فهم علاقة البشر القادمة مع آلات الذكاء الاصطناعي، سيكون مرشدا في فهم تأثيره على بنية الأسرة وتفاعلاتها ومستقبلها.

الذكاء الاصطناعي والدفء الإنساني

تطرح كتابات غربية أهمية الذكاء الاصطناعي في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وترى أن هذا التطور قادر على توفير الدفء لقطاعات من البشر يعانون الوحدة، خاصة من كبار السن، فالذكاء الاصطناعي يوفر الاتصال، والتفاعل، فيطمئن هؤلاء المسنون، فتتبدد وحشتهم، وتتبدد مشاعر الوحدة والانفراد الذي يعانون منه، في حين يؤكد آخرون أن الذكاء الاصطناعي يلازم الإنسان المعاصر منذ لحظة استيقاظه من النوم، مرورا بتناول طعامه، ونظافته، وعمله، وتأمين منزله، ومتابعة الأبناء، وأنه يحقق التواصل بين الآباء المشغولين بالكامل في أعمالهم، وبين أبنائهم، فالذكاء الاصطناعي، من خلال آلاته في التأمين والتتبع والمراقبة والتواصل، يُمَكن الآباء من متابعة تحركات الأبناء وحمايتهم، وتوفير الدعم اللازم في الوقت المناسب، إضافة إلى التواصل الدائم معهم، ومتابعة تقدمهم الدراسي.

والحقيقة أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن تفاديه في مجال العلاقات الاجتماعية والأسرية، ونجاحه في الاضطلاع بعدد غير قليل من الوظائف الإنسانية منحه شرعية التوسع والاستحواذ على وظائف جديدة اجتماعية وأسرية، ومن ثم تقليص مساحة التفاعلات البشرية وحصرها في مجالات محدودة للغاية، لم تستطيع الآلات النهوض بأعبائها حتى الآن.

هذا التطور يثير تساؤلات فلسفية وإنسانية، حول حدود توغل آلات الذكاء الاصطناعي في الحياة الإنسانية، وأي شيء سوف يتبقى للإنسان بعدما اطلع الذكاء بوظائف الإنسان وواجباته؟

يجادل البعض بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتولى التفاعل مع البشر، والرد على استفسارات واستشارات إنسانية، إذا تم إنشاء نسخة قادرة على إنجاز تلك المهمة؛ بل إن تلك النسخة تستطيع أن تجني أموالا، ويضربون مثالا بما قامت به ناشطة أمريكية، هي “كارين مارجوري” Caryn Marjorie  التي استنسخت نفسها من خلال الذكاء الاصطناعي وحصدت نسختها سبعين ألف دولار، في أسبوعها الأول من خلال التواصل مع المتابعين الذين يقتربون من مليوني شخص، لذا يروج هؤلاء أن هذا التوجه بديل رقمي للوحدة، ويمكن سحب تلك التجربة على العلاقات الاجتماعية والأسرية، فالذكاء قادر على محاكاة الإنسان بكلماته وانفعالاته، المبرمجة سلفا، وبذلك يوفر دفئا عاطفيا اصطناعيا، يحاكي مشاعر الود والحب الإنسانية الطبيعية، ويطلق هؤلاء على ذلك “الرومانسية السيبرانية”، ويبررون ذلك بأن الذكاء الاصطناعي يقدم إجابات عن أغلب الأسئلة التي تُطرح عليه، ويوفر المتعة والفرجة، ويفتح نافذة على عوالم متعددة ومثيرة، ويمثل مخرجا لكبار السن وذوي الاعاقات لتفاعل آمن نسبيا مع العالم الافتراضي، لذا يراه البعض خيارا جيدا وبديلا عن علاقات إنسانية أصبحت ضامرة.

المتنفسات التي يتيحها الذكاء الاصطناعي، لها جوانب إيجابية، خاصة لأفراد الأسرة الذين يعانون من مشكلات صحية ونفسية، في حين أن الوجه الآخر هو تقليص العلاقات الإنسانية داخل الأسرة إلى أدنى مستوى تفاعلي، وحصرها في الرقابة الإلكترونية والتأمين من خلال المتابعة وأجهزة الإنذار، في ظل غياب إدراك أن العلاقات الإنسانية داخل الأسرة، بعيدا عن الذكاء الاصطناعي وآلاته ووسائطه، هو مساحة للتعليم الأخلاقي والسلوكي والتعاطف الوجداني وتبادل المشاعر وإيجاد الطمأنينة الروحية والنفسية، وتفهم الحاجات والاحتياجات الوجدانية التي لن يستطيع الذكاء الاصطناعي المبرمج سلفا تفهمها، هذا الإدارك المغلوط في تضخيم قدرات الذكاء الاصطناعي، يسعى لاقناع البشر، أن الذكاء الاصطناعي هو كائن حي وعاقل وليس آلة صنعها الإنسان لخدمته ولا تصلح أن تكون بديلا عنه.

الآلة ليست بديلا للروح

دخول التكنولوجيا الرقمية في مجال العواطف والعلاقات الإنسانية في الأسرة، ليس معناه أن يبتلع الذكاء الاصطناعي ما اختص به الإنسان من الاحساس والعاطفة والمشاعر والوجدان، حتى وإن حدثت محاكاة ميكانيكية لبعض من الانفعالات الانسانية، فلن يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يمنح الطفل الدفء والاحساس بالأمان الذي توفرة الضمة الحانية من الأم، ولن يستطيع الذكاء أن يمنح السكينة للصغار إذا غاب الأب عن البيت، حتى وإن كانت أجهزة الإنذار تعمل بكفاءة، ستظل للإنسان مساحات محررة في مواجهة الذكاء الاصطناعي، ولن تستطيع الدُمي الناطقة أن تمنح المرأة الشعور بالأمومة مثل ابتسامة الطفل الصغير.

هناك أبحاث علمية تسعى لتطوير أنظمة من الذكاء الاصطناعي يمكنها التعرف على مشاعر البشر وانفعالاتهم، ومحاكاتها، لكن الحقيقة أن الإدراك الإنساني يختلف تماما بين أن يشم ويلمس وردة طبيعية يفوح منها عطر الطبيعة، وبين أخرى أنتجت منها المصانع الآلاف، وكذلك المشاعر داخل الأسرة، فلن تكون الدُمية التي تجسد دور الأم بديلا عن الأم، ولن يبدد الروبوت مشاعر القلق مثلما يفعل الوالدين أو الأخ أو الصديق.

أما الأهم فهو أن الذكاء الاصطناعي لن يمنح الأخلاق ولن يغرسها في أفراد الأسرة، لأنه ليس حاضنة تربوية، ولكن آلة مبرمجة، يستطيع الإنسان أن يعدل برمجتها إذا شاء ليخلق سعادة مصطنعة ومؤقتة، ومن ثم لن تحتفظ الذاكرة الإنسانية إلا بالروح الكامنة وراء الكلمة واللمسة والنظرة، فنظرة الكاميرا المثبتة في الربوت ليس فيها أي عمق، على خلاف عين الإنسان التي توحي بما تخبئه النفس.

من المشكلات التي تهدد الأسرة بسبب الذكاء الاصطناعي، هو فقدان الخصوصية والسرية داخل الأسرة، وبالمفهوم الشرعي “غياب مفهوم الستر” إذ تصبح كل الحركات والسكنات في الأسرة مبثوثة على الانترنت، يمكن مشاهدتها والاطلاع عليها، وهو ما يجعل البيوت لا ستر لها من الداخل في حال حدوث أي اختراق من الهاكرز أو “قراصنة الانترنت”، وبالتالي تنكشف البيوت والأسرار بطرق تؤذي العلاقات الإنسانية والنفسية، ومن ناحية أخرى الانكشاف الحياتي أمام الآلات الذكاء الاصطناعي داخل المنزل من ناحية يخلق إمتنانا من الإنسان للآلة، فيزيد من اعتماديته عليها، وهو ما يضعف من التواصل الإنساني في الأسرة، ويصرف عاطفة الإنسان ناحية الآلة التي لن تبادله شيئا من المشاعر، لأنها آلة صلبة ذات قلب حديدي لا حياة فيها.

والحقيقة أن التقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتغوله على المساحات الإنسانية، يفرز شعورا إنسحابيا من العلاقات الإنسانية بشتى أنواعها، فيؤثر الإنسان الوحدة والاختلاء بآلة الذكاء الاصطناعي، فتغيب الروابط الإنسانية، ويتحول الإنسان من كائن اجتماعي إلى ليصبح كائن إنعزالي.