التكييف الفقهي: معناه وفائدته

“التكييف” مصطلح قانوني، تمت استعارته واستعماله في المجال الفقهي. وهكذا بدأ الحديث لدى بعض الفقهاء المعاصرين عن “التكييف الفقهي” بالمعنى الذي يتضمنه مصطلح “التكييف القانوني“.

وفي الحالتين، فالتكييف الفقهي أو القانوني معناه: تحديد ماهية التصرف أو المسألة أو النازلة المعروضة على النظر الفقهي أو القانوني أو القضائي، وتصنيفُها ووضعها في بابها الذي تنتمي إليه وصِنْفِها الذي تنضوي تحته، لكي يتم التعامل معها والحكم عليها من خلال هذا التكييف وهذا التصنيف.

فمثلا: هل هذا التصرف (…) يدخل في باب العبادات؟ أو في باب المعاملات، أو في باب العادات؟

وهل هذا الواجب (…)، أو هذا المحرم (…)، يُعَدُّ من حقوق الله؟ أو من حقوق العباد؟

وهل هذه الجناية (…) تدخل في باب الحدود؟ أو في باب القصاص؟ أو في باب التعازير؟

وهل هذا القتل (…) قتلٌ عمد؟ أو قتل خطأ؟ أو قتل شبه عمد؟

وهل الاستيلاء على مال الغير في حالة كذا وبصفة كذا (…)، يُعدُّ سرقة، أو يُعدُّ خيانةَ أمانة؟ أو هو غصب؟

فالجواب المختار عن أي سؤال من هذه الأسئلة وأمثالها، يعدُّ تكييفا وتصنيفا أوليا للمسألة، وينبني عليه من الأحكام الفقهية أو القانونية أو القضائية ما لا ينبني على خلافه.

فالتكييف الفقهي بمثابة ما يقوم به الطبيب من فحص وتشخيص أولي للحالة، قبل أن يباشر العلاج أو مزيدا من الفحوص الدقيقة.

والتكييف الفقهي – من الناحية العلمية – يدخل ضمن ما يسميه العلماء “تحرير محل النزاع. ومعلوم أن عدم تحرير محل النزاع يؤدي إلى انزلاقات ونزاعات عديدة بين المختلفين، كان بالإمكان تلافيها أو تضييقها بتحرير محل النزاع، ومنه التكييف الصحيح للمسألة. وهو أيضا غير بعيد عما يسميه المناطقة بالتصور، الذي يسبق التصديق، وفقا لقاعدة: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره). إلا أن التكييف أخَصُّ من التصور ولاحقٌ عليه…

التكييف الفقهي للفنون؟

اختلاف العلماء المسلمين في مسألة الفنون ومكانتِها وأحكامها، وخاصة منها الفنون الأكثر شهرة ورواجا، وهي الغناء والموسيقى والتمثيل، يرجع بعضه إلى ثبوت الأدلة أو عدم ثبوتها من جهة الرواية. ويرجع بعضه إلى استعمال الأدلة المعتمدة في الموضوع، من جهة دلالاتها ومقتضياتها.

غير أن ثمةَ سبباً آخرَ للخلاف، قلما يؤبه له ويعتنى بدراسته، وهو تكييف المسألة وتصنيفها.

وحين نقرأ مختلف المؤلفات والفتاوى المتعلقة بالفنون، قديما وحديثا، نجد في الغالب إما إغفالا لهذه المسألة، أو ذكرا جزئيا عَرَضيا لشيء منها، أو نجد استبطانا لتكييف معين، يظهر أثره، لكن دون التصريح به وتوضيحه.

ونظرا لما ينبني على مسألة تكييف الفنون وتصنيفها من تأثير كبير على وضعها في موضعها والحكمِ عليها بما يناسبها، فإني أعرض وأبَينُ وأمحص – فيما يلي – أهم العناصر والاعتبارات المشَكِّلة لتكييف الفنون وتحديد هويتها، مع الإشارة إلى ما بينها من تداخل وتقاطع.

1 – الفنون باعتبارها لهواً

هذا التوصيف شائع عند العلماء، وخاصة في الغناء والطرب والرقص، وهو وصف وارد في الأحاديث النبوية، سواء في سياق ذكر الإباحة، أو في سياق تقييدها وتوجيهها.

فمن ذلك:

– في صحيح البخاري: باب اللهو بالحراب ونحوها[1].

– وفي سنن النسائي: باب اللهو والغناء عند العرس[2].

– وبهذا النحو في عدد من كتب السنة.

واللهو هنا يأتي بمعنى الترفيه والتسلية الاحتفالية.

وهذا لا يعني عند أحد أن الفنون كلها عبارة عن لهو، ولا أن كل لهو فهو فن من الفنون، وإنما يعني أن في بعض الفنون لهوا ولعبا وفرجةً وتسلية، أو فيها “إمتاع ومؤانسة”[3].

وعلى أساس هذا التكييف يمتد السجال من مسألة الإباحة والتحريم لبعض الفنون بعينها، إلى مناقشة حكم اللهو عامة: هل هو الإباحة إلا ما خرج بدليل، أو هو الحظْرُ إلا ما استُثنيَ بدليل؟

وبالنظر إلى كثرة أنواع اللهو والتسلية والترويح، وشيوعها في الحياة اليومية لجميع الناس، سواء في الزمن النبوي أو في غيره من الأزمان، لا يمكن ولا يستقيم إلا  القطع بأن اللهو من حيث هو لهوٌ مباح بالأصالة وبالنصوص معا.

وإنما يبقى النظر في حالات الإفراط فيه ما حكمها، وفي حد الإفراط ما هو، وفي مدى تأثيره على أداء الواجبات وغيرها من التكاليف…

فأما إن كان اللهو يتضمن أو يستلزم الوقوع في محرمات معلومة، فهذا لا شك في تحريمه على تلك الحالة. أما تحريمه من أصله بسبب امتزاجه بالمحرمات، في بعض الحالات، أو في معظم الحالات، فهذا لا يصح ولا يستقيم. والقاعدة الفقهية التي عليها الجمهور هي: الحرام لا يُـحَرِّم الحلال، أو: الحلال لا يَـحْرُم بملاقاة الحرام[4].

وإذاً، فتكييف الفنون أو بعضها بكونها لهوا ولعبا وترفيها، معناه أنها على أصل الإباحة، كسائر الأقوال والأفعال والأساليب الترفيهية. وما زاد أو طرأ على هذا المعنى وهذا الحد، فينظر في حكمه بدليله. أما مجرد اللهو واللعب والاستمتاع بهما فحكمه الإباحة.

ومما يطرأ ويكون له تأثير في الحكم ذلك: الإفراطُ في اللهو والتمادي فيه، حتى يصبحَ مُـخلا بأداء بعض الحقوق والواجبات، أو يصبحَ نوعا من الإدمان، أو يصبحَ إهدارا للوقت ومضيعة للعمر. ففي هذه الحالات قد ينتقل حكم اللهو من الإباحة إلى الكراهة، أو إلى التحريم، بحسب درجة الإفراط وما ينجم عنها. قال الإمام الغزالي: “فما كل حَسَن يَـحسُن كثيرُهُ ، ولا كل مباح يباح كثيرُهُ، بل الخبز مباح، والاستكثار منه حرام”[5].

وهذا هو الذي سماه الشاطبي “المباح بالجزء، المطلوب التركِ بالكل“، ومَثَّله بـ”التنزه في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، واللعب المباح بالحمام، أو غيرها. فمثلُ هذا مباح بالجزء؛ فإذا فُعل يوما ما، أو في حالة ما، فلا حرج فيه. فإن فُعل دائما كان مكروها، ونُسب فاعله إلى قلة العقل، وإلى خلاف محاسن العادات، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح“([6]). فهذا “هو المباح بالجزء، المطلوبُ التركِ بالكل، بمعنى أن المداومة عليه مَنهيٌّ عنها[7].

2 – الفنون باعتبارها صناعةً وتكسبا

هذه جهة أخرى لا بد من استحضارها واعتبارها عند النظر في الفنون وتصنيفها والحكم عليها؛ وهي أن كثيرا منها إنما نشأ وازدهر باعتباره حرفة من الحرف وصناعة من الصناعات الخدمية، يتكسب منها أصحابها. فالفنون قد تكون خدمة مطلوبة ممن يرغبون فيها ويستفيدون منها، وهي أيضا خدمة معروضة ممن ينتحلونها وينتجونها.

وتدخل هنا فنون العمارة، من قَبيل ما وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير} [النمل: 44]،

وفي قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَات} [سبأ: 13].

والحقيقة أن عامة الفنون إذا لم تصبح صناعة وحرفة ومصدرَ رزق ودخل لمنتحليها، كانت عرضة للانزواء أو الاختفاء.

ويرى ابن خلدون أن الصنائع الفنية والكمالية إنما تظهر ويكثر الطلب عليها وعلى تعلمها في المجتمعات المتحضرة ذات الرفاهية والازدهار العمراني. قال: “وإذا زخر بحر العمران وطُلبت فيه الكمالات، كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها، فكملت بجميع متمماتها، وتزايدت صنائع أخرى معها، مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله؛ من جزار ودباغ وخراز وصائغ وأمثال ذلك.

وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استجر العمران إلى أن يوجد منها كثير من الكمالات والتأنق فيها في الغاية، وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها، بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه الترف في المدينة، مثل الدهان والصفار والحمامي والطباخ والشماع والهراس ومعلم الغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع، ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها؛ فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك.

وقد تخرجُ عن الحد إذا كان العمران خارجا عن الحد، كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيور العُجم والحُمُر الإنسية، ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرقص والمشي على الخيوط في الهواء، ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب، لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة، أدام الله عمرانها بالمسلمين”[8].

فهذه الصنائع الفنية والحِرَفُ التزيينية لم يقل أحد بتحريمها لهذا الاعتبار ومن هذه الحيثية، فكذلك يقال في ممارسة سائر الفنون باعتبارها صناعة وحرفة لأربابها.

3 – الفنون باعتبارها زينة وعروضا جمالية

الربط بين الفن والجمال كثير أيضا، وخاصة عند أنصار الفن من المفكرين والفقهاء المعاصرين. فيرون أن الفن في أصله وأصالته تعبير بديع عن مظاهر الجمال في الكون والحياة. والفن إنما يكون ناجحا وجذابا بقدر ما يجسده من جمال وإبداع. فالفنون الحقيقية عبارة عن معارض للجمال ولِـمَواطنه وعناصره، في أشكال إبداعية جميلة. وهو بذلك يخدم التربية الجمالية، ويشحذ الذوق الجمالي لمختلف المدارك والحواس البشرية، ما ظهر منها وما بطن.

يقول الأستاذ محمد قطب: “والفن الإسلامي.. إنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود.

هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان، من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان.

هو الفن الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق. فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال. ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود”[9].

ومن هنا تعتبر الفنون في هذا التكييف من جملة الزينة التي أتاحها الله وأباحها لعباده.

وبالتعبير المقاصدي، فالفنون الأصيلة الجميلة بهذا الاعتبار، هي من جملة المقاصد التحسينية، التي جاء الشرع بإقرارها، بل بحفظها ورعايتها.

4 – الفنون باعتبارها انحلالا ومجونا

وهذا التوصيف أو التكييف هو عمدة المحَرِّمين لمختلف الفنون، فهو نقيض التوصيف الذي سبقه. ويستند هذا التوصيف إلى الواقع المشاهد، والواقعُ لا يرتفع.

فالغناء والموسيقى والرقص والتمثيل المسرحي والسينمائي، وغيرها من الفنون، تعج بمظاهر التفسخ والمجون واتباع الشهوات والنزوات وارتكاب المنكرات، والسقوط في الرذائل والموبقات وترويجها. حتى أصبح البعض يصفون الفن بالعفن. وبناء على هذا الواقع، فإن الحكم لن يكون إلا التحريم.

يقول الشيخ بكر أبو زيد: “ثم اعلم أن قاعدة الشريعة: أن الشيء إذا كان في أصله مباحا ثم احتوى على محرم أو أفضى إليه، أن يكون حراما، وهكذا (التمثيل)، إذا قيل إنه في الأصل يلتحق باللهو المباح ثم خالطه محرم أو أفضى إليه، فإنه يكون حراما: أداء، وكسبا، وعرضا، ومشاهدة، طردا لقاعدة الشريعة المذكورة”[10] .

ثم قال: “ما فيه من عظاتٍ وفضائلَ مزعومةٍ، مغمورةٌ في حلبة تلك الـمُلهيات التي توقظ نائم الأهواء وتحرك ساكن الشهوات، كما ينطق بذلك الواقع المرير، لتمرير الفحش والخناء والفسوق والعصيان، وتهديم البيوت داخل أسوارها، فهو يمثل مخاطر على العقائد والأخلاق والفضائل والآداب”[11].

وكتب الدكتور إبراهيم هلال مقالا بعنوان (تأثير الفن على الأسرة) عرض فيه مختلف التأثيرات السلبية لبعض الفنون المعاصرة على الأسرة وأفرادها، من تفكك وانحلال وفساد، وخاصة ما يُعرض على القنوات التلفزيونية ويدخل كل بيت…

وختم مقاله بالقول:”فهذا هو الفن، وهذا هو أثره في دنيا الناس وحياة الأمم. وهو على هذا  عائق كبير من عوائق تقدمنا وحضارتنا.

فما بقاؤه إذًا في دنيانا وفي بيئتنا؟!”[12].

هذه التوصيفات للفنون مقبولةٌ ومردودة في آن معاً؛ مقبولة باعتبارها وصفاً حقيقيا لواقع جزء كبير، إن لم يكن الأكبر، من الإنتاجات والممارسات للفنون المذكورة وللأجواء المحيطة بها. ولكنها مردودة باعتبار ما فيها من خلط وتعميم وإلزام لما لا يلزم. وهذا شبيه بما وقع فيه منتقدو ابن حزم فيما ذهب إليه من إباحة للغناء وآلات الطرب. فقد حملوه أوزارا لا علاقة له ولا لكلامه بها.

يقول الشيخ الزبير دحان: “اختيار ابن حزم هذا، جر عليه وبالا من الكلام، ونال بسببه قاسيَ العتب والملام، فاعتبره البعض ضالا مضلا، وأحيانا يحاسبه مخالفوه بما عليه واقع الغناء وآلات الطرب و”الفيديو كليب” في دنيا الناس اليوم، كما لو أن من يقول بإباحة آلات الطرب يبيح تلك الصور التي لا يرتاب في حرمتها عاقل. ولو سئل ابن حزم عنها لردد ما روي عن بعض السلف: “لا يفعله إلا الفساق عندنا”. إلا أن هذا الانحراف بالغناء عن حده، لا يرجع بالتحريم على أصله”[13].

ولذلك، فلو قيل: إن هذه الفنون الغنائية والتمثيلية المتصفة والمتلبسة بهذه الأوصاف، لا يجوز الاشتغال بها على هذه الحال؛ لا أداء، ولا سماعا، ولا مشاهدة، لكان قولا حصيفا منصفا. لأن هذه الأوصاف ليست بلازمة، ولا هي عامة، بل هي أوصاف عرضية لا ذاتية. فهي توجد في بعض الفنون دون بعض، وفي الفن الواحد توجد في بعض الأعمال دون بعض. وقد توجد في أكثرها وليس في كلها.

وأهم ما في الأمر أنها قابلة للانفكاك والتغيير في الفنون التي توجد فيها. وكما يوجد ناس يطلبون هذه الفنون الوسخة ويريدونها بأوساخها، أو يريدونها لأوساخها تلك، فإن ناسا آخرين كثيرين يتلهفون على الأعمال الفنية الراقية النظيفة، ولكنهم لا يجدونها.

وفكُّ الارتباط بين أي فن من الفنون وما يلتصق به من محرمات وملوثات، يحتاج فقط إلى ذوي الهمم العالية والأهداف السامية، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ.

5 – الفنون باعتبارها وسائل

هذا وجه آخر من وجوه المسألة الفنية، مما يمكن تكييفها على أساسه؛ وهو أن الفنون في كثير من الحالات تكون مجرد وسيلة جذابة ومؤثرة، تستعمل لغايات التوجيه ونشر مضامينَ معينةٍ هي مقصود العرض الفني.

وحضور هذا الاعتبار ليس بالقليل، في مختلف الأصناف والأعمال الفنية المقدمة للجمهور، بدءا بالخط والرسم والزخرفة، مرورا بالفنون الأدبية[14]، ووصولا إلى الأعمال السينمائية، والأناشيد الدينية والوطنية… وسيأتي مزيد بيان لهذا التكييف ضمن مبحث التوظيف.

وعلى العموم، فإن الأهداف والغايات المتوخاة من وراء الأعمال الفنية التوسلية، قد تكون إصلاحية بناءة، وقد تكون إفسادية هدامة. وقد تكون إصلاحية وبناءة في نظر البعض، وهي بذاتها إفسادية هدامة في نظر غيرهم.

6 – الفنون باعتبارها حاجةً فطرية للنفوس البشرية

لم أجد – أو على الأقل لم أتذكر مما قرأت –  مَن تناول الفنون من هذه الزاوية أو كَيَّفها بهذا الاعتبار. والمراد بهذا هو أن الناس، من مختلف الأعراق والثقافات، يتعاملون مع الفنون وينجذبون إليها بميول ورغبات جِبِلِّيَّةٍ راسخة فيهم. وهذا ما يفسر لنا وجود بعض الفنون لدى كافة الشعوب، وفي مختلف العصور. كما يفسر لنا سرعة انتقال بعض الفنون من شعب لآخر، وسرعة تقبلها لدى غير من ابتكروها.

ولقد كنتُ طيلة شبابي معتقدا تحريم الغناء وما لف لفه، وكنت متشددا في ذلك، حتى إنني حضرت في ضيافة أقيمت على شرف المشاركين في مؤتمر إسلامي انعقد بمدينة تطوان المغربية (سنة 1974)، وما إنِ استقر بنا المقام في قصر مضيفنا، حتى انطلق “الجوق الأندلسي” في عزفه وموشحاته… صدمتُ لذلك واستغربته وأنكرته في نفسي، ولم أتحمل البقاء مع هذا “المنكر”، فاستغفلتُ القوم وطأطأت برأسي وخرجت مسرعا دون أن ينتبه إلي أحد.

لما عدنا إلى قاعة المؤتمر بادرني صديقي الأخ حماد الزموري، الذي كنت أجلس بجانبه قائلا: أين اختفيتَ فجأة؟ ما الذي حصل؟ فلما شرحت له موقفي قال لي: أما أنا فقد انحلّتْ مفاصلي واسترخَتْ مع الطرب الأندلسي… فرددت عليه فورا: أما أنا فمفاصلي قد صَدِئت ويبست، ولم تعد قابلة للانحلال…!

كان صديقي يعبر – بتلقائية – عن فطرته ومشاعره، وكنت أنا أعبر موقف فقهي قرأته وكررته، حتى تشبعتُ به.

واقعة أخرى شهدتُها بعد ذلك بسنوات، كانت أصغر من السابقة، ولكنها أبلغ دلالة. وهي أنني كنت في مجلس عائلي بمنزلنا وقريتنا، وكان في المجلس والدايَ وعددٌ من إخوتي وأخواتي، وغيرُهم من الأقارب الذين حضروا للقائي. وفتح أحد الحاضرين مذياعا كان معه، وإذا بأغنية خفيفة لطيفة تنطلق منه. وبينما أنا أتململ تبرما وضيقا، قام طفل صغير يتمايل مع نغمات الأغنية وألحانها، وكان الطفل في حدود الثالثة من عمره!

ولقد فكرت طويلا ومرارا في هذه الواقعة الأخيرة منذ لحظة وقوعها. وتبين لي أن هذا الطفل الصغير لم تحركه للتفاعل والرقص إلا فطرته وسجيته. ومنذُئذٍ بدأتُ أراجع وأتراجع، وأُعدِّل من رأيي في الغناء والموسيقى…إلى أن أصبحت على يقين أن كل شيء متأصلٍ في فطرتنا وخِلقتنا وميولنا، فإن الله تعالى قد شرعه وأباحه بمقدار من المقادير، وبوجه من الوجوه، أو بعدة وجوه…

ومما عزز عندي هذا الاعتقادَ وهذا الجزمَ، وقوفي على مقالة جليلة قالها الإمام القاضي أبو بكر بن العربي في عارضته، وهي قولُه: “الْحَلاَلُ ما أُذِنَ في تَعَاطِيه، والْحَرَامُ ما مُنِعَ منه. وإن الباري سبحانه بِبَدِيعِ حِكْمَتِهِ لَمَّا خَلَقَ لنا ما في الأرض جميعًا – كما أَخْبَرَنَا – قَسَّمَ الحال فيه:

فمنه ما أَبَاحَهُ على الإطلاق.

ومنه ما أَبَاحَهُ في حال دون حال.

ومنه ما أَبَاحَهُ على وَجْهٍ دون وَجْهٍ.

فأما أن يَكُونَ في الأرض ممنوع لا تَتَطَرَّقُ إليه إباحة في حال، ولا على وَجْهٍ، فلا أَعلَمُه الآنَ؛ … وكُلُّ شيء تَتَعَاوَرُهُ الأحكام بِالْحَلاَلِ والْحَرَامِ إلا التوحيد، فإنه لا تَدْخُلُهُ إحَالَةٌ، ولا يَنْزِلُ عن دَرَجَةِ الْفَرْضِيَّةِ ومَنْزِلَةِ الوجوب والْحَتْمِ في حَالَةٍ، فَتَبَارَكَ الصَّمَدُ الْوَاحِدُ”[15].

والميول والرغبات الفنية لا تخرج من هذا. فالله تعالى لم يجعلها في جِبِلَّتِنا، مع تحريمه لها علينا تحريما مطلقا. بل اللائق بالشريعة والمعهود في تعاملها مع الميول الفطرية هو التهذيب والتوجيه والتقييد والترشيد، وليس المنع المطلق والتحريم في جميع الاتجاهات.

وقد أفاض الإمام الغزالي في بحث موضوع “السماع والوجد”، وسرد ما في الموضوع من أحاديث وآثار، ومنها حديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : (…وكان يومَ عيد يلعب السودان بالدَّرَق والحِـراب، فإما سألتُ النبيَّ وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلتُ نعم. فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أَرْفِدة، حتى إذا مللتُ قال: حسبك؟ قلت نعم، قال فاذهبي).

ومن الأحكام والآداب التي استنبطها الغزالي ونبه عليها في فقه هذا الحديث: “وقوفه – – طويلاً في مشاهدة ذلك وسماعه، لموافقة عائشة رضي الله عنها. وفيه دليل على أن حُسنَ الخُلق في تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب، أحسن من خشونة الزهد والتقشف في الامتناع والمنع منه”[16].

وإنما نقلتُ هذا الاستشهاد لتأكيد ما يتضمنه من كون التعلق بالفنون ميلا فطريا وحاجة طبيعية، ولبيان كيف تعامل معه النبي الأكرم، .

ولقد اطلعتُ على كتاب للعلامة الأديب شهاب الدين النُّوَيري (المتوفى: 733هـ)، سماه (نهاية الأرب في فنون الأدب)، وذكر في آخر مقدمته تنبيها ذا صلة بما نحن فيه، فقال: “وأَتيتُ فيه بالمقصود والغرض، وأثبتّ الجوهر ونفيت العرض، وطوّقته بقلائد من مقولي، ورصّعته بفرائد من منقولي. فكلامي فيه كالسارية تلتها السحائب، أو السريّة ردفتها الكتائب. فما هو إلّا مترجم عن فنونه، وحاجب لعيونه. وما أوردت فيه إلّا ما غلب على ظنّي أنّ النفوس تميل إليه وأن الخواطر تشتمل عليه”[17].

لقد كان رحمه الله يدرك أنه يصوغ أدبا رفيعا وفنا ممتعا، فاتخذ الميول الفطرية المعهودة في النفوس البشرية معيارا لما يصنع، ولما يضع فيه وما يدع.

 


** مأخوذ من بحث  “المسألة الفنية في النظر المقاصدي من خلال مدخل التكييف والتوظيفي” للدكتور أحمد الريسوني. قدمه في ندوة (الفنون في ضوء مقاصد الشريعة)، التي ينظمها مركز دراسات مقاصد الشريعة بلندن، بتاريخ 4/5 نونبر 2016، بمدينة اسطنبول.

[1] – من كتاب الجهاد والسير.

[2] – من كتاب النكاح.

[3] – الإمتاع والمؤانسة: عنوان كتاب أدبي لأبي حيان التوحيدي.

[4] – انظر القاعدة رقم 339 بمعلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، المجلد 8، ص 375.

[5] – إحياء علوم الدين2/283.

[6] – الموافقات1/ 98.

[7] – الموافقات 1/ 209.

[8] – تاريخ ابن خلدون1/ 401 – نشر إحياء التراث.

[9] – منهج الفن الإسلامي ص6 – الطبعة السادسة لدار الشروق- 1403/1983.

[10] – التمثيل ص 45- للشيخ بكر أبو زيد – نشر دار الراية للنشر والتوزيع بالرياض – الطبعة الأولى 1411هـ.

[11] – التمثيل ص 57.

[12] – المقال منشور بمجلة التوحيد – عدد جمادى الأولى 1400، نقلا عن شبكة الألوكة.

[13] – تحقيق الأرب بإنصاف ابن حزم في مسألة الغناء والموسيقى وآلات الطرب، ص13- نشر دار الأمان بالرباط – الطبعة الأولى 2012.

[14] – لشهاب الدين النُّـوَيْري – المتوفى: 733هـ – كتاب سماه (نهاية الأرب في فنون الأدب).

[15] – عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، المجلد 3 الجزء 5، ص199 – طبعة دار الفكر، بدون تاريخ.

[16] – إحياء علوم الدين 2/245،246 – طبعة صبيح بالقاهرة – 1375/1965.

[17] – نهاية الأرب في فنون الأدب 1/25 – نشر دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة – الطبعة الأولى، 1423ـ