مع عصر النهضة الأوروبية، كانت الفلسفة تشهد الكثير من التساؤلات بعد اشتداد الصراع بين الذات والموضوع[i] ، ومع بداية القرن العشرين، جاء الفيلسوف التشيكي “أدموند هوسرل” Edmund Husserl (المتوفى 1937) ليطرح اتجاها جديدا، من خلال توحيد المذهبين التجريبي والعقلاني في وحدة منهجية ذات نسق معرفي، فأخذ الفلسفة إلى مسار مركزية الوعي عند الإنسان، ودراسة تجليات الشعور تجاه العالم والأشياء، وسعى لجعل ذلك الاتجاه الفسلفي علماً كلياً دقيقاً يكون أساسًا لكل المعارف والعلوم، فيجمع بين الفلسفة في صورتها الغائية، والمنهج التجريبي في نتائجه اليقينية.
كانت الوسيلة الرئيسة التي استخدمها “هوسرل” للتوصل إلى الحقيقة اليقينية، هي التأمل العقلي الذاتي الذي ينكفأ فيه الفكر على نفسه داخليا، كان ” هوسرل” يضع القواعد لـ”الفينومولوجيا” أو الظاهرتية، وهي مدرسة فلسفية تعتمد على الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية، أي كيف تتبدي الظواهر، وكيف تدركها الذات الواعية، كما هي لتكون موضوعا ًللإدراك، وأساسا للمعرفة، لذا كانت “الظاهرتية” عنده هي علم البدايات الصحيحة، الذي تقوم عليه كل شروط المعرفة والعلوم.
وقد تعرضت “الفينومولوجيا” للكثير من الانتقادات، ومع ذلك لجأ إليها بعض دراسي الأديان، مثل الدكتور “إسماعيل الفاروقي” ، بل هناك من أرجع البدايات الأولى لهذا الاتجاه، إلى العالم المسلم ” أبو ريحان البيروني” الذي انتهجه في كتابه “ديانات الهند” الذي درس فيه أديان الهند من جوانبها كفلسفة وعقيدة وأساطير وشرائع اجتماعية.
وفي العدد الـ (27و28) من مجلة الاستغراب الصادرة عن المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية، ربيع وصيف 2022، ويقع في (316) صفحة، يعرض ملفا بعنوان “الفسلفة المضافة في تهافتها: الفينومولوجيا-البنيوية-التفكيكية” مقتربا من “الظاهرتية” ودورها في دراسة الأديان.
هل الفينومولوجيا فلسفة؟
اشتُقّت كلمة فينومولوجيا phenomenology من جذر لغوي يوناني، قديم، ويعني الشيء الذي يظهر من تلقائه، وأوّل من استعمل مصطلح “الظاهراتيّة” (الفينومينولوجيا) هو الفيلسوف الألمانيّ يوهان هاينريش لامبرت في القرن الثامن عشر الميلادي، ثم الفيلسوف “كانط” متحدثا عن الأشياء كما تتتبدى وتظهر، وأسماها الظاهرة، والأشياء كما ندركها من خلال معرفتنا وأسماها “الذات”، ومن ثم أصبحت المعرفة عنده تساوي الظاهرتية، وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي استخدمت الظاهراتية كمرادف للواقعية.
ومع “هوسرل” اُستعمل مصطلح “الفينومولوجيا” في إطار فلسفي مستقل، وكان ذلك بداية المساعي لاعتبار الظاهراتية فلسفة، وكانت الفكرة هي التخلّص من جميع الفرضيّات والتصوّرات السابقة، وأن يتحرّر المفكر من التفسيرات والشروح العِليّة، ومن ثم كان الوصف هو المهمة الأولى للظاهراتية، إذ كان البحث في الموجودات كما تظهر، والخوض في وصفها كما تبدو للذات، دون الاستناد إلى أفكار أو معتقدات مسبقة، هو الأساس الذي قام عليه هذا الاتجاه الفلسفي.
أما المفكر الظاهراتي في الشأن الديني، فكان يعمد إلى إقامة مواجهة مع حضور الدين، بدلا من تفسيره، لذا تؤكد دراسات أن الظاهراتية تفتقر إلى جميع أبعاد النظام المعرفيّ الكامل؛ ولذلك لا يمكن اعتبار ظاهراتيّة الدين علمًا مستقلّاّ، ومن ثم تبقى اتجاها في دراسة الدين من خلال التوصيف، رغم محاولة الفينومولوجيا الظهور بأن لها إطارا مستقلا في العلم والتفلسف.
الظاهراتية والدين
عاني العقل الغربي من أزمة عميقة مع الغيب أو الميتافيزيقيا، ولم يجد له مخرجا إلا أن ينزل الفلسفة من تساؤلاتها الوجودية المتعالية، ويحيلها إلى علم ينطلق من التجارب الحسية، ولعل هذا الاتجاه الذي تجلى بأشكال مختلفة في عدد من الاتجاهات الفلسفية الحديثة، كان وراء تقويض التأمل الفلسفي، لذلك قيل أن “الظاهراتية” كانت “مبدأ الانعطاف من الأنطولوجيا إلى الإبستمولوجيا[ii]”، أي من علم الكينونة والوجود والنظر إلى الأشياء غير المرئية وغير المادية إلى دراسة المعرفة والأشياء المرتبطة بها، وبذلك كان ما يسمي بـ”العلموية” هو البداية لتقويض بنية التأمل الميتافيزيقي في منظومة الفلسفة الغربية الحديثة، ورغم أن بعض دراسي الفسلفة الغربيين استعمل الظاهرتية أو “الفينومينولوجيا” كمرادف للواقعيّة، لاهتمامها بالحقيقة الخارجيّة.
وتهدف فينومينولوجيا الدين إلى “دراسة الأديان من خلال ما تعبّر به عن نفسها بعيدًا عن الافتراضات المسبقة من جانب الباحث، أو تطبيق مسلّمات خارجيّة غريبة عن الأديان موضوع الدراسة، وأن تُقيّم بطريقة موضوعيّة دور الدين في حياة الإنسان”
وهنا نجد اختزلا لفطرية الإيمان ليصبح مجرد دلالة تاريخية، فمعظم الظاهراتين أو الفينومينولوجيين لم ينظروا للدين على أساس أنه غيبي ميتافيزيقيٌّ، يُمكن معه تفسير الظواهر باعتبارها ظاهرةً لحقيقةٍ باطنةٍ أو إيمانية، وربما يرجع ذلك إلى أن النزعات التشكيكة التي انتشرت في الفلسفة الغربية الحديثة، نظرت إلى المعرفة الغيبية، بوصفها نوعا من المعرفة الوهمية، ولا إمكان للعقل البشري أن ينفتح عليها، أو أن يقبلها كمعطى واقعيّ.
ويلاحظ أن الظاهراتية لم تكف عن الدعوة للإعراض عن الغيب ظنا منها استحالة إدراكه، وتسبب ذلك في أزمة عميقة لها في تعاملها مع الدين، إذ أغفلت الظاهراتية عمق الدين الغيبي والوجداني، مكتفية بدراسة تجلياته الظاهرة من طقوس وأفكار وشعائر وآثار، وتسبب هذا الاعراض عن الغيب لخضوع الفكر الفلسفي الغربي لمنطق التقنية، وسطوة الآلة.
وهناك من يرى أن هذا الاجتياح التقني للعقل الغربي، وسيطرة روح الآلة والرقمنة عليه، ما هو إلا نوع من تجلي الإيمان بالمادية والظاهرية، التي ودأت الكثير من عطاءات التأمل الفسلفي في الأسئلة الوجودية، وبالتالي لم يعد العقل الفلسفي الحديث ينظر للكون نظرة إندهاش وإكبار وإجلال، ولكن ينظر إليه كواقع مادي يمكن السيطرة عليه.
وقد استخدم بعض المستشرقين هذا المنهج لدراسة الإسلام، ومنهم المستشرقة الألمانيّة “آن ماري شيمل “، لكن كان المفكر “إسماعيل راجي الفاروقي” (المتوفى 1986م) أول من طبق ذلك المنهج في دراساته الاسلامية، في كتابه “أطلس الحضارة الإسلاميّة”، وقال أن الظاهراتية: “تتطلّب من المراقب أن يترك الظواهر تتحدّث عن نفسها دون أن يقحمها في إطار فكري مقرّر سلفًا، كما يدع صورة الجوهر الذهنيّة تنسّق المعلومات أمام الفهم فتتعزّز مصداقيّتها بها” ثم أضاف: “قد يصحّ القول أنّ هذا الكتاب هو أوّل تطبيق للطريقة الظاهراتيّة في دراسة الإسلام وحضارته بوجه عام” ورغم ذلك مارس “الفاروقي” النقد على المنهج الفينومولوجي، فلم يقبل أن يكتفي ذلك المنهج بعرض قيم دين ما فقط، دون ممارسة النقد، فالنقد حيوي في مجال مقارنة الأديان، ذلك لم يرض بالاكتفاء بالوصف والفهم فقط، لأنه يرى أن الظاهرة الدينية حية.
[i] مفهوم الذات والموضوع من المفاهيم الرئيسة في التفكير الفلسفي، لارتباطهما بسؤال: أيهما أسبق في الوجود الفكر أم المادة؟ والذات هي: الإنسان العاقل المفكّر، أما الموضوع فهو: كل موجود قابل للمعرفة، والمعرفة هي نتاج العلاقة الجدلية بينهما.
[ii] الابستمولوجيا: هي دراسة مبادئ العلوم وفرضياتها ونتائجها دراسة نقدية توصل إلى إبراز أصلها المنطقي و قيمتها الموضوعية