القرآن الكريم في الأصل كتاب هداية” عبارة سمعناها ونسمعها كثيرا في المحاضرات والندوات التي يكون موضوعها القرآن الكريم، وهي تأتي عادة عقب تناول موضوع يحاول سبر أغوار القرآن الكريم، وكشف حقائقه وأسراره وما حوى من علوم ومعارف وحقائق قد تكون بعيدة -حسب فهم البعض- عن الهدف الأسمى من نزول القرآن الكريم، ألا وهو هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق. تأتي كرفض لذلك السبر والكشف بدعوى أنه بعيد عن مقصد القرآن والغاية من نزوله، أو أنه قد يشكل خطرا على القرآن، أو انتقاصا من قدره وسموه. وكأن أصحاب هذه المقولة يقولون لغيرهم اتركوا عنكم كل موضوع يظنون أنه يخرج القرآن عن مقصده وهدفه الأسمى.
والمتمعن في الموضوع سيجد أن هذه المقولة – بغض النظر عن قائلها – لا تتعارض مع أي بحث علمي أو معرفي أو اقتصادي أو اجتماعي أو نفسي في القرآن الكريم، بل على العكس من ذلك فإنها تتكامل معه، وتتقوى به، وتتعزز من خلاله. ولنأخذ مثالا على ذلك وهو موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وهو أشهر موضوع توجه لأصحابه هذه المقولة كلما حاولوا بيان تطابق بعض الحقائق العلمية مع ما هو مذكور في القرآن الكريم.
فالبحث في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لا يخرج عن هداية الناس وإرشادهم، بل إنه يخدمه ويقويه ويسنده، ولا أدل على ذلك من إسلام أفواج غفيرة سواء من العلماء الباحثين، أو من عامة الناس من الغربيين بفضل هذا التطابق بين ما وصل إليه العلم الحديث وبين ما هو مذكور في القرآن الكريم منذ قرون من الزمن، فهذا الإعجاز العلمي أسهم في هداية الناس وإرشادهم للطريق المستقيم، بل وصار من أهم أساليب ووسائل الدعوة وجذب الناس إلى الإسلام في الغرب.
ولعل هذا من صور إعجاز القرآن الكريم وعالميته واستمراره، ذلك أنه صالح لكل زمان ومكان، ويخاطب كل الثقافات والعقول والبيئات، فما كان سببا في هداية الناس وإسلامهم زمن الرسول ﷺ من بلاغة اللغة وفصاحتها، والترغيب والترهيب، قد لا يلائم الأجيال المعاصرة التي منها من فقد الملكة اللغوية، فلا تحركه بلاغة ولا تشده فصاحة، ومنها من تبلدت مشاعره فلا يدفعه ترغيب ولا يردعه ترهيب. فكان من إعجاز القرآن وربانيته وصلاحيته لكل زمان ومكان، ومن عوامل استمراره وبقائه أن يكتنز في آياته أساليب ووسائل أخرى تلائم كل فترة زمنية وكل جيل من الأجيال، يستنبطها المبحرون في أسراره، والمتأملون في معانيه، والباحثون عن خباياه.
ومما يؤيد اكتناز القرآن الكريم لكثير من الأسرار والحقائق والمعارف التي قد تظهر لبعض وتخفى على بعض، هو عدم تفسير الرسول ﷺ -وهو الذي نزل عليه – له تفسيرا كاملا وقطعيا يلغي كل محاولة بعده للخوض فيه أو إبداء وجهة نظر معينة. ولهذا وجدنا الصحابة قد فسروا القرآن واختلفوا فيه، وجاء بعدهم التابعون فقدموا إضافات مهمة لتفسير الصحابة، ثم تتابع العلماء من بعدهم فأضافوا وكشفوا واستخرجوا واستنبطوا، ولا زال الباحثون والعلماء في كل عصر يستخرجون معاني وأسرار ومعارف جديدة من القرآن خفيت عمن سبقهم، أو لم تدركها عقولهم، أو لم تصل إليها إمكانيات زمانهم.
وفي ذلك يقول الشيخ متولي الشعراوي في مقدمة خواطره حول القرآن الكريم: “ولو أن القرآن كان من الممكن أن يفسر، لكان النبي ﷺ أولى الناس بتفسير هذا القرآن لأنه عليه نزل وبه انفعل، ولكنه ﷺ بين للناس على قدر حاجتهم في البيان، فبين لهم الأحكام التكليفية التي يثاب المرء إن فعلها، ويعاقب إن تركها، أما كل ما يتعلق بكونيات الوجود، وأسرار القرآن حول ذلك الوجود، فقد اكتفى ﷺ بما علم هو نفسه، واكتفى بأن علم منها من وجد عنده استشرافا للفهم، ولكنه لم يشع ذلك ولم يعممه لأن العقول قد لا تتقبله. والقرآن لم يأت ليعلمنا كيف نوجد أسرار الوجود، وإنما جاء ليكنز أسرار الوجود حتى تجيء العقول ذوات الاستعداد لأن تفهم السر لأنها حامت حوله بحركة الحياة، حينئذ يكون عطاء القرآن للسر عطاء مجذوبا إليه”.
إن الله سبحانه وتعالى القرآن لم ينزل القرآن الكريم ليتلى في الصلوات، ويشيع به الأموات، وتقام به المناسبات فقط، وإنما ليتخذ منهاج حياة، ويرجع إليه في كل وقت وحين بحثا عن حلول لمشاكل نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أرهقت الأفراد والجماعات، فكنوزه وأسراره لم يمط اللثام عنها بعد، ولا زال يرمي لنا بجواهره كلما تقدم الزمن وتطورت العلوم، فعجائبه لا تنقضي، وخيره لا يفتر. وصدق ابن مسعود حين قال: “من أراد العلم فليقرأ القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين”