المتأمل في القرآن الكريم لا بد أنه سيتوقف كثيرًا عند عنايته بأمر السنن الإلهية؛ بيانًا لأهميتها، ودعوةً إلى تَفحُّصها، وأمرًا بالسير في الأرض والنظر في أحوال السابقين، لاستكشاف ما جرى عليهم من سُنن وما وقع لهم أو عليهم من جزاء.. حتى ليجوز لنا أن نصف القرآن بأنه “كتاب للسنن الإلهية “.
ويمكن تعريف السنن الإلهية بأنها: الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر بناءً على سلوكهم وأفعالهم وموقفهم من شرع الله وأنبيائه، وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة([1]). أو هي بمنظور أوسع: مجموع القوانين التي يسير وفقها الكون، ويستفيد منها الإنسان بما يؤهله، فيسخّرها ويستفيد منها. إنها نُظُم هذا الكون المفتوح بما فيه ومن فيه، المسيرة له وفق ما أراده الخالق المبدع جل شأنه؛ ومجالها الواسع: السماوات والأرض، والحياة والكون، والإنسان([2]).
والمصدر الأساس للتعرف على السنن الإلهية إنما هو القرآن الكريم؛ فهو الكتاب الذي جاء ليعرِّف الناسَ بربهم سبحانه، وليوضح لهم طريق النجاة في الدنيا والآخرة؛ بما يستلزم ذلك من تفصيل الشروط والضوابط والقوانين اللازمة للفوز بهذه النجاة، وتجنب هذا الخسران والهلاك.. أي بيان السنن الإلهية.
فالقرآن الكريم- كما يقول الشيخ الصادق عرجون- هو النبعُ الأصيل لإمداد الحياة بروافد الفكر المهتدي بنور الوحي لإلهي، فيّاضٌ بالعلوم والمعارف، زخّارٌ بروائع الحقائق، يستشيروه الباحثون بالبحث والنظر فيعطيهم من خزائن حكمته ما تشاء عقولهم المسلمة من فلسفة([3]).
وقد احتوى القرآن الكريم على بيان أصول السنن الإلهية سواء في الكون أو المجتمعات، ورَبَطَ بينها في تناسق؛ لأنها جميعها سنن صادرة عن الله تعالى؛ الذي أنشأ الكون وخَلَق الإنسان كأتم ما يكون الإنشاء والخَلْق.
فسنن الله تعالى في المجتمع- بحسب ما يبين عرجون- جانب من جوانب الفكرة القرآنية التي بثّها الله في آيات هذا الكتاب المبين نظامًا اجتماعيًّا مترابطًا إلى جانب سنن الله العامة في الكون، التي تصوِّر فلسفة القرآن في فهم الحياة كما تصور حكمته في نعوت الكمال لله تعالى خالق الحياة. وفلسفةُ القرآن تجعل من الكون كله حقيقة واحدة طوى فيها خالقُها دلائلَ وجوده، وبراهين وحدانيته، وآيات قدرته وعلمه وحكمته، ووكل إلى العقل البشري تكليفًا وتشريفًا الكشفَ عن هذه الدلائل والبراهين بما أودع فيه من قوة إدراكية غائية، وبما أمده من عون في تهدِّيه إليه؛ وهذا المعنى هو خلاصة وعد الله تعالى لهذا العقل بالكشف عن آيات الله في الكون، يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53) ([4]).. وهذا ما يدعونا لتأمل مادة السنن في القرآن الكريم.
مادة “السُّنن” في القرآن
السُّنة معناها الطريقة المعتادة أو النمط أو القانون. وتستخدم الكلمة في مناسبات كثيرة في القرآن، وتَرِدُ في القرآن عادة في مناسبتين هما “سنة الأولين”- (الأنفال: 38، الحجر: 3، الكهف: 55، فاطر: 43)- و”سنة الله”- (الإسراء: 77، الأحزاب: 62، فاطر: 43، الفتح: 23)- وكلا التعبيرين مترادفان؛ نظرًا لأنهما يشيران إلى ما أنزل الله من العذاب بالأمم الخالية ممن كذبوا أو استهزأوا بما جاء به الأنبياء الذين أرسلوا إليهم([5]).
وبصورة أكثر تفصيلاً يمكن أن نلاحظ أن لفظ “السنة” جاء في القرآن الكريم بالصيغة الصريحة في ستة عشر موضعًا؛ منها أربعة عشر موضعًا بالإفراد، وموضعان بالجمع؛ وتسعة مواضع مضافًا إلى الله تعالى، وموضع واحد مضافًا إلى الرسل، وأربعة مواضع مضافًا إلى الأولين، وموضع واحد مضافًا إلى الذين مِن قبل، وجاء في موضع واحد نكرة مجردة عن الإضافة وبصيغة الجمع. وقد توزعت هذه المواضع على عشر سور؛ خمس منها مكية، وهي: الحجر، والإسراء، والكهف، وفاطر، وغافر؛ وخمس مدنية، وهي: آل عمران، والنساء، والأنفال، والأحزاب، والفتح([6]).
وهذه الآيات بحسب ترتيب سور القرآن الكريم هي:
1- {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137).
2- {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النساء: 26).
3- {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال: 38).
4- {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (الحجر: 13).
5، 6- {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (الإسراء: 77).
8- {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} (الأحزاب: 38).
9، 10- {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 62).
11، 12، 13- {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43).
14- {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر: 85).
15، 16- {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الفتح: 23).
ونلاحظ من خلال هذه المواضع المتعددة لورود لفظ “السنة” في القرآن الكريم، ما يلي:
1) أن هذه المواضع الستة عشر تدور حول ست صيغة؛ هي:
سُنَّةَ اللَّهِ- سُنَّتَنا- سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا- سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ- سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ- سُنَنٌ.
2) أنها وردت مفردة وجمعًا، ومضافة وغير مضافة: كما في (سُنَّةَ اللَّهِ)، و(سُنَنٌ).
3) أنها أضيفت مرةً إلى مصدرها: وهو الله تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ)، ومرة أخرى إلى مَن جاء بها: وهم المرسَلون (سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا)، ومرة ثالثة إلى من خوطب بها: وهم أقوام الرسل، أو الأولون (سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ- سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).
4) أنها وردت في خمسة مواضع مقرونة بتأكيد أنها لا تبديل لها ولا تحويل (ومنها: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا})؛ مما يؤكد إحدى خصائص السنن الإلهية وهي أنها سنن ثابتة.
القرآن كتابٌ للسنن
لكثرة ما ورد في القرآن الكريم عن السنن الإلهية تصريحًا وإشارةً، يمكن القول إن القرآن الكريم في مجمله كتابٌ للسنن الإلهية؛ يدل الناس على خالقهم سبحانه وعلى منهجه الذي ارتضاه لهم، ويوضح لهم الطريق الذي يجب أن يسلكوه في حياتهم بمختلف مناحيها، الفردية والأسرية والمجتمعية، سلمًا وحربًا.. وكلُّ ذلك داخل في نطاق السنن الإلهية التي جاءت لتبين للناس الطريق، ولتخرجهم من ظلمات التيه والضلال والتخبط إلى نور الهداية والرشاد والمعرفة والاستبصار.
ويلاحظ الإمام محمد عبده أن هذا الحديث عن السنن، هو مما اختص به القرآن الكريم؛ فيقول: “هَذَا إِرْشَادٌ إِلَهِيٌّ، لَمْ يُعْهَدْ فِي كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَعَلَّهُ أُرْجِئَ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْإِنْسَانُ كَمَالَ اسْتِعْدَادِهِ الِاجْتِمَاعِيِّ، فَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، الَّذِي خَتَمَ اللهُ بِهِ الْأَدْيَانَ”([7]).
ولفت محمد عبده إلى أن القرآن الكريم أجمل الحديث عن السنن الإلهية، ثم أمرنا بمعرفة ذلك تفصيلاً من خلال السير في الأرض وتدبر أحوال السابقين؛ فقال: “أَنْزَلَ اللهُ هَذَا الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ آخِرَ الْكُتُبِ، وَبَيَّنَ فِيهِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي غَيْرِهِ. بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَطَبَائِعِهِمْ وَالسُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْبَشَرِ، قَصَّ عَلَيْنَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَنِ الْأُمَمِ وَسِيَرِهَا الْمُوَافَقَةِ لِسُنَّتِهِ فِيهَا. فَلَا بُدَّ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي أَطْوَارِهِمْ وَأَدْوَارِهِمْ، وَمَنَاشِئِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ، وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ… أَجْمَلَ الْقُرْآنُ الْكَلَامَ عَنِ الْأُمَمِ، وَعَنِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعَنْ آيَاتِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفَسِ، وَهُوَ إِجْمَالٌ صَادِرٌ عَمَّنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَمَرَنَا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِنَفْهَمَ إِجْمَالَهُ بِالتَّفْصِيلِ الَّذِي يَزِيدُنَا ارْتِقَاءً وَكَمَالًا. وَلَوِ اكْتَفَيْنَا مِنْ عِلْمِ الْكَوْنِ بِنَظْرَةٍ فِي ظَاهِرِهِ، لَكُنَّا كَمَنْ يَعْتَبِرُ الْكِتَابَ بِلَوْنِ جِلْدِهِ لَا بِمَا حَوَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ”([8]).
ويوضح عمر عبيد حسنة أن الرؤية القرآنية، والتوجيهات النبوية تؤكدان أن هـناك قوانين وسُننًا تحكم حركة التاريخ والاجتماع البشري، لا تتخلف ولا تحابي أحدًا، ولولا ذلك لما كان في الدعوة للسير في الأرض، والتبصر بالعواقب، والمآلات، التي انتهت إليها التجمعات البشرية، أي معنى أو مردود؛ خاصة وأننا نحن المسلمين نخضع للقوانين نفسها، حيث لا يكفي النظر في النتائج، كما هـي حالنا اليوم، بل لا بد من النظر في المقدمات والأسباب التي أنتجتها، حتى يتمكن المسلمون من التحكم بها، وأخذ الحذر من الوقوع فيها، وحتى لا ينتهوا النهاية نفسها؛ فالمقدمات نملكها، والنتائج تملكنا، وقد تكون إحدى آفات العقل المسلم اليوم أننا ندع ما نملكه إلى ما يملكنا. ولا شك أن معطيات الوحي، في الكتاب والسنة تضمنت خلاصة السنن التي تحكم الحياة والأحياء، بما عرضت له من القصص القرآني، عن نهوض الأمم والحضارات وسقوطها، وربط الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج، بشكل أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية، التي تحكم عالم المادة، ليعتبر أولو الأبصار”([9]).
ويتفق مع هذه الخلاصة المهمة أحمد محمد كنعان، مشيرًا إلى كثرة آيات القرآن “التي تحض المؤمنين على السير في الأرض، والتفكر في آيات الله المبثوثة في الوجود؛ حتى يلتفت العقل إلى النظام البديع الذي يحكم الأشياء، ويوجه الأحداث؛ فيستنبط من ذلك السنن، التي تتحكم في حركة الحياة وتطورها، ويعمل من ثم على تسخيرها في عمارة الأرض، وبناء الحضارة الإنسانية المنشودة. وقد خصص القرآن الكريم جانبًا كبيرًا من سُوَره لعرض قصص الأمم الغابرة، ليلفت انتباهنا إلى ما آلت إليه تلك الأمم، حين سلكت سبيلاً معينًا، وليلفت الانتباه كذلك إلى أن المجتمعات البشرية محكومة بنوع من السنن، التي تضبط حركتها وتطورها، وتحدد مصيرها آخر الأمر”([10]).
إذن، القرآن الكريم كتابٌ للسنن الإلهية تنظيرًا وتطبيقًا؛ وذلك من خلال ما جاء فيه من بيان أهمية السنن في الوعي المطلوب، وترشيد الحركة في الحياة.. ومن الدعوة إلى السير في الأرض، والنظر في الوجود.. وأيضًا من خلال تقديمه نماذج من الأقوام السابقين لمن اهتدى بالسنن ولمن تنكَّب عنها، وبيان مآل هؤلاء وأولئك..
وهذا الوجود المكثف للسنن الإلهية في القرآن الكريم يمثل دعوة عملية لنا لوضع هذه السنن موضع التفكر والتدبر وموضع العمل والتطبيق.. عسى أن نرتفع إلى هدايات القرآن، ونكون أهلاً لما أراده الله تعالى لنا من استخلاف وعمران وشهود حضاري..
([1]) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، د. عبد الكريم زيدان، ص: 13.
([2]) على مشارف القرن الخامس عشر الهجري- دراسة للسنن الإلهية والمسلم المعاصر، إبراهيم بن علي الوزير، ص: 7.
([3]) سنن الله في المجتمع من خلال القرآن، محمد الصادق عرجون، ص: 14.
([4]) المصدر نفسه، ص: 16.
([5]) الموسوعة الإسلامية الميسرة، تحرير ه.أ.ر. جب و ج.ه. كالمرز، 1/ 480.
([6]) سنن العمران البشري في السيرة النبوية، د. عزيز البطيوي، ص: 76. بتصرف يسير.
([7]) تفسير المنار، 4/ 116.
([8]) تفسير المنار، 1/ 20، 21.
([9]) عمر عبيد حسنة، تقديمه لكتاب: أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، ص: 13.
([10]) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، أحمد محمد كنعان، ص: 45.