جاء القرآن الكريم ليصلح ذوات الصدور وليبين للناس طريق القسط والعدل فيما بينهم، وليبصرهم بالمعاد، هو إذن كتاب هداية وتشريع، فهو ليس قانونا جامدا هدفه تبيان ما يفعل وما يترك في واقع الناس فقط، بل هو مع ذلك رسالة إلى القلوب توقظها من رقاد الغفلة عن الأسئلة الوجودية الكبرى حول أصل هذا الكون ومساره ومصيره بعد الفناء الموت المكتوب عليه، وقد أمر القرآن المسلمين بالتواصل المباشر مع آياته لأنها رسالة الله إلى كل قلب بشري، عليه أن يأخذ منها قسطه ونصيبه، وهو ما يعرف بالتدبر، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، وقال تعالى عاتبا على الذين يعرضون عن ذلك ومبينا أن على القلوب البشرية أقفالا مفاتيحها تدبر آيات الله المسطورة: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.

لكن فهْما غير دقيق لمواقف بعض الصحابة من تفسير القرآن، وتنزيلا غير واع لبعض القواعد المنهجية التي رسمها علماؤنا الأوائل للتعامل مع النص القرآني؛ جعل الخطاب الدعوي والعلمي السائد يغلق الأبواب بين الناس مع القرآن، ويضع المتاريس في طريق الراغبين في التواصل مع كتاب ربهم، وهو الخطاب الذي حول القرآن من رسالة مباشرة من الله إلى عباده جميعا، إلى رسالة خاصة بنمط من الناس هم (العلماء)، لتبقى العامة من المسلمين -وهم الأغلبية في كل عصر ومصر- بعيدة عن الاستهداء بكتاب ربها، مكتفية بما تتسقطه من أخبار عن معاني هذا الكتاب العظيم.

ولعل التفريق بين مصطلحي (التدبر) و(التفسير) يمكن أن يسهم في تجاوز هذا الإشكال، فما هو التدبر وما هو التفسير؟ وما الفرق بين الاثنين؟ وما هي ضوابط أهلية تعاطي كل واحد منهما؟ هذا ما سأحاول تناوله في هذا المقال الموجز، ولكن قبل ذلك لا بد أن أشير إلى أن البيان القرآني المعجز دال بنفسه على أنه موجه للتأثير على القلب البشري في تعاطيه المباشر مع تلك الإيحاءات والدلالات البلاغية المختلفة، التي تتفاوت الناس في وعيها بتفاوت مستواها الإدراكي والعلمي، ويمكن لكل أحد أن يفهم ما توصله إليه مدركاته ومعارفه دون أن يصطدم بفهم آخر منبن على مدركات ومعارف أكثر أو أقل.

التدبر مسلك روحي

التدبر: مصدر الفعل (تَدَبَّرَ) وهو من التفعُّل، ويعني لغة النظر إلى دبر الشيء، فهو نظر في عواقب الأمور وأسبابها وتتبع لمسارها مقبلة ومدبرة، هذا من الناحية اللغوية، أما من الناحية الاصطلاحية فكما قال فريد الأنصاري رحمه الله: “”مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله”، ومن خصائصه أنه عمل قلبي ونظر نفسي لا يستطيع أحد أن ينوب فيه عن أحد، ولذلك جاء الأمر به عاما “ليدبروا آياته” “أفلا يتدبرون القرآن“، وهو لا يتأتى إلا بعد فهم الآية الـمُتَدَبَّرَة، ولكن الفهم المطلوب للتدبر هو فهم المعنى العام لأنه أساس المعنى، ثم بعد ذلك تبدأ شجرة الفهم في النمو ولا نهاية لفروعها في الأعلى، فهي شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فمثلا قوله تعالى: “الحمد لله رب العالمين” مفهومة المعنى الأساسي لكل عربي، ولكن الفهوم تتفاوت حسب قوة الإدراك وكثرة المعارف في دلالات الحمد هنا ولماذا عبر بالاسم ولم يبدأ بالفعل إلخ.

لا يحتاج التدبر سوى وعي عام باللغة العربية ونفس مؤمنة بما جاء في القرآن وشيء من السكينة القلبية تسمح بتدفق الفيوض الربانية على القلب أثناء التلاوة، ومن ضوابط التدبر أنه إذا جاء فيه ما يستغرب يرجع به إلى كتب التفسير حتى يعلم هل هو منسجم مع أدوات الاستنباط المنهجي من النص القرآني.

التفسير قراءة منهجية

أما التفسير فهو قراءة في المعنى الدقيق الذي تدل عليه البنية اللفظية والتركيبية، ويهدي إليه سياق الكلام ومساقه، وهو عمل يحتاج أدوات منهجية خاصة للقيام به، خاصة إذا أريد منه استنباط الأحكام الشرعية والقواعد السلوكية، أما إذا كان للاتعاظ وتحريك القلوب فهو سيكون نمطا من التدبر الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة، والحقيقة أن التفريق بين الاثنين لا يمكن أن يكون دقيقا لأنهما متداخلان ضرورة في بعض المستويات، ولذلك كان الأقدمون يخلطون بين المصطلحين فيطلقون كل واحد منهما على الآخر.

إنه لا بد أن نفهم أن النص القرآني ليس نصا مغلقا، بل هو نص مفتوح في الألفاظ والأساليب، وهذا أحد أوجه إعجازه، حيث إنه لا ينتمي في وضوح ألفاظه وجزالتها وسهولة أسلوبه وقوته إلى طبيعة الترسل في الفترة التي نزل فيها، حيث تسيطر المفردات الغريبة والأساليب الصعبة على البيان العربي حينها، وحينما نقوم بمقارنة بين الشعر والنثر العربيين في فترة نزول القرآن وبين النص القرآني سنجد أن هذه الملاحظة دقيقة.

ثم هو نص مدعوم (بالتعبير المعاصر) من الله سبحانه، أي “ميسر للذكر” بالتعبير القرآني، وفيه شيء من طبيعة الشريعة التي يحملها، يسرا وسهولة، فالعربي المعاصر الذي لا يعرف العربية قواعد ومعجما يستطيع -حسب رأيي- أن يفهم أكثر من ثلثي اللغة القرآنية فهما عاما، يمكنه من التدبر والاتعاظ والعمل، كما أن غير العربي يستطيع أن يفهم مبادئه وقيمه ورسالته لملاءمتها للفطرة البشرية.

وقد أثر عن ابن عباس رضي الله عنه كلام نفيس جدا، يجعل فيه تلقي القرآن على مستويات أربعة، وهو تقسيم منهجي قد يسهم في تجاوز هذا الإشكال الذي طرحناه منذ البداية، يقول ابن عباس كما نقل الإمام الطبري في تفسيره: “التفسير على أربعة أوجه : “وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله”، واللافت في كلام ابن عباس هو أن جعل في القرآن قسما لا يعذر أحد بجهله، ثم هذا الترقي من المستوى الأدنى (بمعنى الأقرب) في التفسير إلى المستوى الأبعد، وكلما ذهبنا في العلو ضاقت دائرة الفهم حتى نصل إلى ما لا يعلمه إلا الله، وكلما ذهبنا نحو الأدنى اتسعت تلك الدائرة، حتى نلقى عامة المسلمين في دائرة (ما لا يعذر أحد بجهله).

ومن المهم الانتباه إلى أنه كلما اتسعت المعرفة أفقيا اتسعت معها دائرة ما لا يعذر أحد بجهله فهي دائرة متحركة بعامل خارجي هو دائرة المعرفة في المجتمعات البشرية، وباتساعها تتسع أيضا دائرة ما تعرفه العرب في لغتها، لأنه سيدخل في العرب ما ليس منهم نسبا، ولكنه منهم لغة وحضارة وعلما، فهو يعرف ما تعرفه العرب ي لغتها، كما ستتسع بتوسع الدائريتين دائرة ما تعرفه العلماء.

إنه لا بد للأئمة والدعاة أن ينتبهوا إلى أن رسالتهم الدعوية والتربوية لن تصل ما داموا يقيمون سدودا وحواجز بين الناس والنص القرآني، وأن الطريقة المثلى لنهوض الأمة ووعيها بدينها هو أن توجه نحو القرآن لتفهمه وتدبره، وأن تخبر بيسر ذلك وسهولته وإمكانيته، ذلك بأن ما يصل إلى قلب المؤمن عن طريق تدبر ذاتي خير ووأنفع له من مئات الدروس والعظات الآتية من خارج التواصل المباشر مع النص.

صحيح أنه لا بد من ترشيد ذلك التوجيه ووضع قواعد صلبة ومرنة في الوقت نفسه تمكن من التواصل المباشر مع القرآن دون أن تشيع فوضى القراءة غير المؤسسة لكتاب الله.