أوضح د. محمد صالحين، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي بكلية دار العلوم– جامعة المنيا، أن فن القراءات القرآنية يشتمل على أبعادٍ أخلاقية، تتمثل معالمها في البُعد الأخلاقي الرباني، والبعد الأخلاقي النبوي، والبعد الأخلاقي التكليفي حيث التيسير والمرونة، والدقة والأمانة؛ كما جاء ذلك في بحثه “البعد الأخلاقي في القراءات القرآنية”؛ الذي شارك به في مؤتمر “الأخلاق والفلسفة”، لمركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، يومي 17- 18 نوفمبر.
والمؤتمر الذي عُقد تزامنًا مع “اليوم العالمي للفلسفة”، شارك به 39 بحثًا علميًا، من 15 جنسية عربية وإسلامية وأوروبية وأمريكية، وتضمن العديد من الجلسات والنقاشات المهمة والثرية.
وهذا البحث، الذي ينقسم بعد التوطئة إلى ثلاثة محاور، يعد من الإبداع الذاتي والابتكار الفردي؛ كما أنه من “البحوث البينية”؛ أي التي تتصل بالمساحة المشتركة بين علمين أو أكثر؛ حيث علم القراءات القرآنية وعلم الأخلاق؛ وهذان العِلمان تخصص فيهما الدكتور صالحين، ويمارسهما تعليمًا وتدريسًا بالجامعة وغيرها.
وقد ذكر د. صالحين أن البحث يهدف إلى محاولة استنباط البُعد الأخلاقي في القراءات القرآنية، مع محاولة الاستفادة من هذه الأخلاق في حياتنا الإنسانية، على سائر أصعدتها النظرية، والعملية، الفردية، والجماعية.. ومهّد لذلك ببيان مفهوم الأخلاق، ومفهوم القراءات القرآنية، مشيرًا إلى أن الأخلاق صيغة جمع، مفردُها خُلُق، وأصل الخُلُق في لغة العرب: الطَّبْعُ، والسَّجِيَّةُ. وأما المفهوم الاصطلاحي (الفلسفي) للأخلاق فَيُطلق على مجموعة من الأفكار والأحكام والعواطف والعادات التي تتصل بحقوق الناس وواجبات بعضهم تجاه بعض، والتي يعترف بها ويقبلها الأفراد بصفة عامة في عصر معين أو في حضارة معينة.. كما يطلق على العلم الذي يدرس هذه الظواهر، مثلما أن علم الطبيعة هو العلم الذي يدرس الظواهر الطبيعية.
وأما مفهوم القراءات القرآنية، كما يبين البحث، فهو فنٌّ يُقَنِّنُ القواعدَ التي يجب أن يلتزمَها قارئُ القرآنِ الكريم-حالَ الأداء، والتعليمِ، والتعلمِ-من حيثُ ضبطُ الرواية إسنادًا، وضبطُ التلاوة تطبيقًا، والالتزامُ بقواعد اللغة، ورسم المصحف، وهي الأركان الثلاثة للقراءة المتواترة: موافقة اللغة ولو بوجه، وموافقة الرسم المصحفي ولو احتمالًا، وتواتر الإسناد، في كل الطبقات.
وذكر البحث أن القراءات السبع اشْتُهِرَتْ بعد العهد النبوي بعشرات السنين، وتلقتْها الأمةُ بالقبول، في كل أجيالها، حتى يومنا هذا؛ وهي قراءات: نافع المدني، وابن كثير المكي، وأبي عمرو البصري، وابن عامر الشامي، والكوفيين الثلاثة: عاصم، وحمزة، والكسائي.. بينما الأحرف السبعة: “هي تلك الوجوه اللغوية، والصوتية، التي أباح الله بها قراءة القرآن؛ تيسيرًا وتخفيفًا على العباد”.. وأن الحكمة الرئيسة من هذه الأحرف، يمكن تمثلُها في التخفيف على الأمة الإسلامية، وتيسير القراءة عليهم؛ نظرًا لغلبة الأمية على الجيل الأول منها، وكذلك لتعدّد لهجات العرب؛ بجانب حِكَم أخرى فرعية عن هذه الحكمة، أو ثمرة لها.
المحور الأول: البُعد الأخلاقي الرباني في القراءات القرآنية:
وهنا يقرر د. صالحين أن البعد الأخلاقي الرئيسَ في القراءات القرآنية هو: صفة الرحمة الربانية، أو: صفات الرحمة الإلهية. فالأحاديث النبوية الثابتة تدل على أن النبي ﷺ أشفق على أمته- حاضرًا في عصره، ومستقبلًا إلى ما شاء الله- من أن يكون أداؤها للقرآن الكريم على حرف واحد؛ أي: طريقة أداء واحدة، وهي هنا: لهجة قريش، وسأل اللهَ تعالى معافاته؛ لأن أمته لا تطيق ذلك، وظل يتضرع إلى ربه؛ المرة، بعد المرة، حتى استجاب له الربُّ الرحيمُ، فرخَّص للأمة المحمدية أن تقرأ القرآن على حرفين، ثم ثلاثة، ثم على سبعة، كلها شافٍ، كافٍ، فكانت هذه الرخصة برهانًا على رحمة الله تعالى بالأمة الخاتمة من ناحية، ورسالةً إلى الأمة أن تتراحم فيما بينها وبين جميع الخلائق من ناحية ثانية، ورسالةً إلى علماء هذه الأمة ومفكريها وفقهائها وقرّائها ودعاتها أن يلتمسوا للناس- جميع الناس- سبل الرحمة، ورُخَصَ الشرع؛ ليرفعوا عنهم المشقة، ويظللوا حياتهم بظلال الراحة، والسكينة، والسعادة.
وأضاف: هناك جوانب أخلاقية أخرى؛ منها تجلي صفات الجمال الربانية من كونه تعالى هو الرحمن، الرحيم، العفو، الغفور، الغفار، التواب، القريب، المجيب، الودود.. إلخ؛ لأن الله تعالى كان قادرًا على أن يجعل أداء القرآن متنوعًا على سبعة أحرف منذ بداية التنزيل، غير أن حكمته تعالى شاءت أن يكون بدايةً على حرف واحد؛ لمحبته تعالى أن يتضرع عبادُه إليه-متمثلين هنا في سيدنا محمد ﷺ- بالدعاء، وأن يسألوه التيسيرَ والتخفيف، ورفع العنت والمشقة، فيستجيب لهم، وهذا جانبٌ أخلاقي لطيف، ومن الممكن تطبيقه في دنيا المكلفين، عن طريق الشفاعات الحسنة، والكفالات الطيبة، والتخفيف عن الناس، ورفع المشاق والآصار عن كاهلهم.
وتابع: ومع أن رحمة الله تعالى تمثل ظلال الجمال في صفاته جل ثناؤه، غير أنها كذلك تشير إلى صفات الجلال، والكمال؛ فهو سبحانه لا رادَّ لحكمه، ولا معقبَ لأمره، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منه الجدُّ، إذا شاء امتحن عباده بالتكاليف الإلهية، وإذا شاء امْتَنَّ عليهم بالرُّخَص الربانية، وهذا ما حدث في تطور القراءات القرآنية؛ من قراءة على حرف واحد؛ تكليفًا وعزيمة، إلى القراءة على سبعة أحرف؛ تخفيفًا ورخصة… وأما تجلي صفات الكمال في هذه القضية المهمة فهو من الوضوح بمكان؛ لأن في هذا التكليف، الذي أعقبه التخفيف برهانًا على أن الله تعالى هو الرقيب، الشهيد، الحفيظ، الحسيب… إلخ صفات الكمال؛ التي بمقتضاها تعهد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم، مع تيسيره للذكر، مع تنوع طرق أدائه إلى سبعة أحرف.
المحور الثاني: البُعد الأخلاقي النبوي في القراءات القرآنية:
وأوضح د. محمد صالحين أن هذا البُعد الأخلاقي السامي يتمثل في الشفقة التامة للنبي ﷺ على أمته، وابتهاله المكثف إلى الله تعالى أن يخفف عنها قراءة القرآن، وعدم استكانته لبلاغ جبريل الذي يحمل التكليف والعزيمة؛ حتى استجاب له ربُّه، ويسَّر أمرَ التلاوة القرآنية؛ من طريقةٍ أداء واحدة، إلى سبعِ طُرُقٍ متنوعة، متكاملة، متعاضدة، متآزرة.
وأضاف: هذه الشفقة النبوية، التي تجلتْ في مواطنَ عديدةٍ من سُنَّة النبي ﷺ وسيرته، تُمَثِلُ جانبًا أخلاقيًّا غايةً في اللطف والروعة في آن واحدٍ، يُعلمُنا ألا نيأس أبدًا من رَوْح الله تعالى. ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم: ” كان النبي ﷺ عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف،
فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك،
ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين،
فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك،
ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف،
فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك،
ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا”.
وفي صحيح ابن حبان “إني بعثت إلى أمة أمية، منهم الغلام والجارية، والعجوز والشيخ الفاني “، قال: “مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف “، وقد ترجم ابن حبان لهذا الحديث ترجمة بسيطة عميقة دالة في آن واحد، فقال: ذكر العلة التي من أجلها سأل النبي ﷺ ربه معافاته ومغفرته. وترجم لحديث آخر في الباب نفسه قائلا: “ذكر تفضل الله جل وعلا على صفيه ﷺ بكل مسألة سأل بها التخفيف عن أمته في قراءة القرآن بدعوة مستجابة.”.
وفي حديث ابن مسعود ملمحٌ لطيفٌ، وهو أن الكتب المنزلة قبل القرآن كانت كلها منزلة على حرف واحد فقط؛ أي طريقة أداء واحدة، فلم يهدأْ للنبي ﷺ بالٌ حتى استجاب له ربُّه، وخفَّفَ عن أمته، وجعل قراءة القرآن على سبعة أحرف: «إن القرآن نزل على نبيكم-ﷺ-من سبعة أبواب، على سبعة أحرف، أو قال: حروف، وإن الكتاب قبلَه كان ينزل من باب واحد، على حرف واحد” (مسند أحمد).
أما حديث أبي هريرة ففيه- مع التخفيفِ والتيسيرِ- التحذيرُ من الخلاف، والمراء، في قراءة القرآن: ” أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ ثَلَاثًا، مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ، فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ، فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ ” (صحيح ابن حبان)، وقد ترَّجم ابن حبان لهذا الحديث ترجمةً محكمة؛ فقال: ذكر الزجر عن تتبع المتشابه من القرآن.
ولفت د. صالحين إلى أن مسألة الترخص في خواتيم الآيات كانت قبل أن يستقر القرآن الكريم في نسخته الأخيرة، مع العرضة الأخيرة التي تدارس فيها النبي ﷺ القرآن مع جبريل في آخر رمضان قبل وفاته، وتم ختم القرآن فيها مرتين، وفي هذه العرضة الأخيرة استقر نصُّ القرآن في صورته النهائية؛ فلا نسخ، ولا قراءة محتملة، ولا قراءة تفسيرية، بل نصٌّ واحدٌ، وإن تنوعت طُرُق أدائه.
وأضاف: ثم تأتي الثمرة المتفرعة عن خُلُقُ الشفقة النبوية، وهي: حُسْنُ التخلق مع رسولنا المبلغ عن ربه؛ توقيرًا، واتباعًا، وتأسيًا. وهو بُعدٌ أخلاقيٌّ واجبٌ؛ نظرًا وتطبيقًا. ففي ركن النظر: يجب أن نتخلق مع رسول الله ﷺ؛ كونه النبيَّ المصطفى، والرسولَ المرتضى، وأنه المبلغُ عن الله تعالى رسالته، وأنه بلغ وأدى، وما قصَّر وما آلى، وأنه ﷺ قام بالأمانة خير قيام، وما كتم حرفًا من كلام ربه، ولا وحيه، وأنه المعصوم عن الزلل والخطأ فيما يخص الرسالة والبلاغ.. وأما في البُعد التطبيقي: فيتمثل في متابعة رسول الله ﷺ، والتأسي به، والاقتداء بهديه على العموم، وفي تحمل القرآن الكريم- بقراءاته المنقولة عنه- وأدائها على وجه الخصوص.
المحورُ الثالثُ: البُعد الأخلاقي التكليفي (الإنساني) في القراءات القرآنية:
وفي هذا المحور ذكر د. صالحين أننا إذا أعملنا عقولنا في محوري: البعد الأخلاقي الرباني: (الرحمة)، والبعد الأخلاقي النبوي: (الشفقة)، إزاء قضية القراءات القرآنية فإننا يُمكننا بغاية السلاسة أن نستنبط قاعدتينِ مهمتينِ؛ وهما: ضرورةُ التخلق بصفات الله تعالى، والاقتداء بخُلق النبي ﷺ، من ناحية، وإمكانية استخراج الأبعاد الأخلاقية التكليفية (الخاصة بالعباد المكلفين)، من خلال هذين البعدين الأخلاقيين الساميين؛ من صفات رب العزة، وأخلاق سيدنا محمد، من ناحية أخرى.
وتابع: فمن حيثُ محور الرحمة الربانية المتجلية في فن القراءات القرآنية: فإن التخلق بصفات الله تعالى-جمالًا وكمالًا-مستحبٌ للمكلفين على قدر طاقتهم.. وفي محور الشفقة النبوية: فإن التخلق بأخلاق الأنبياء عامة، وبأخلاق نبينا محمد ﷺ خاصة: مما يندب الشرع إليه، ويحث العقل الرشيد عليه.. وثمرة هاتين القاعدتين يمكن تمثلُها في دعوة أنفسنا وجميع المكلفين إلى التخلق بخلق الرحمة، والشفقة؛ كما يمكننا تمثلُ صفة رحمة الله تعالى، وخُلُقِ الشفقة النبوية في الأبعاد الأخلاقية الإنسانية العملية التطبيقية الآتية: خُلق التيسير، وخُلق المرونة، وخُلق الأمانة.
وبين د. صالحين أن هذه الأخلاق الإنسانية الثلاثة يترتب عليها ثلاثُ ثمراتٍ يانعات نافعات، وهنَّ: تعددُ الصواب في القضايا الفرعية، ومنها قضية القراءات القرآنية.. قبولُ التنوع، واحترامُ الخلاف.. إمكانيةُ تحقق مثلث الأخلاق؛ إلزامًا، ومسؤوليةً، وجزاءً؛ أي: تحقق التزكية الإنسانية؛ تخليةً، وتحلية.
خُلق التيسير:
ولعل هذا البُعد الأخلاقي يمثل رمانة الميزان النظرية، والتطبيقية، في هذه الورقة البحثية، والمنطلق في ذلك ما صحَّ عن النبي ﷺ من الأحاديث التي لم يدعْ من خلالها مجالًا لأية مزايدة؛ موضحًا أن المقصد الرئيس لتنوع طرق أداء القرآن الكريم: (القراءات القرآنية) هو مقصد التيسير، ورفع المشقة عن أصحاب اللهجات العربية في زمانه، بله في الأزمنة المتعاقبة بعده؛ خاصة في زمننا هذا.
ولعل خُلُقُ التيسير قد تغلغل في وجدان علماء الإسلام، من أصوليين، وفقهاء، ومفكرين، ومحدثين؛ بحيث صاغوا من خلاله عشراتِ القواعد الميسرة لأنشطة البشر؛ ومنها: إذا ضاق الأمر اتسع.. الضرورات تبيح المحظورات.. الضرورة تُقَدَّرُ بقدرها.. الضررُ يُزال.. المشقة تجلب التيسير.. الأصل براءةُ الذمة..
خُلق المرونة:
وهو يعني قبولَ التنوع في الأداء القرآني، والإقرار بصواب الآخر، والتماس العِلل والحِكم من وراء تعدد القراءات القرآنية، ويعني من طرف آخر: عدم التشدد في موضع الترخص، وعدم التضييق في موضع السعة، وعدم الانغلاق على رأي واحد في موضع تُقبل فيه الآراء المتنوعة، وعدم رمي الآخر بالخطأ بدون بينة.
وهذه أمثلةٌ من أحرف القراءات القرآنية التي تتجلى فيها خصلتا التيسير والمرونة في آنٍ:
– في تنوع البنية الصرفية للكلمات القرآنية؛ حسب لهجات العرب في نطقها: {إبراهام}، {أنُ اغدوا}، {إن يُبَدِّلنا}، {ليَزلقونك}، {أُذْنٌ}، {ووُلْدُه}، {شانيك}، {البِيوت}، {غَرفة}، {مائة}، {رياي الناس}.
– في الإظهار والإدغام للحروف المتجانسة، والمتقاربة: {بل نَّحن}، {أعلم بِّمن}، {أعلم بِّالمهتدين}، {أكبر لو}، {يكذب بهذا}، {الحديث سنستدرجهم}، {كذبتْ ثمود}، {أقسم بما}، {لقول رسول} {الأقاويل لأخذنا} {المعارج تعرج}، وغيرها من عشرات ألوف المواضع القرآنية.
خلق الأمانة، ودقة التحمل والأداء:
وينبني هذا البُعْدُ الأخلاقيُّ على كون القراءات القرآنية عِلْمًا توقيفيًّا سماعيًّا بالأساس، ولا يبدأ مجال الاجتهاد فيه إلا بعد عمليتي التحمل أولًا، ثم الأداء ثانيًا، وهو اجتهادٌ واجبٌ على أهل الاختصاص، قائمٌ على التحليل، والموازنة، والمقاربة، والمقارنة، والتسويغ من عدمه، والاستدلال اللغوي، والعقلي، وكل هذا يقع تحت فرعٍ أساسيٍّ من فروع علم القراءات، وهو علم التوجيه؛ الذي برع فيه المختصون من علماء المسلمين؛ قديمًا، ووسطيًّا، وحديثًا، ومعاصرًا.
ومن أمثلة ذلك: أن القارئ أو الراوي قد يلتزم قاعدةً واحدةً في الأداء طوال القرآن، ثم نراه يخرجُ عنها في موضع واحدٍ فحسب من قراءته، وما ذلك إلا لأن هذا هو وجه تحمله، فيقدم النقل على القياس، ولا يأنف من أن يخالف قاعدة قراءته؛ لأنه الأمر يتعلق بالأمانة، وهاكم أمثلة شارحة:
يلتزمُ حفص الفتح، وعدم الإمالة في القرآن كله؛ إلا موضعًا واحدًا؛ هو أداؤه للفظة: {مجراها} بالإمالة، من قوله تعالى في سورة هود: {بسم الله مجراها ومرساها} وتصل به الدقة أن يميل ألف مجراها، ويرقق معها الراء، دون أختها (مرساها) مع أن اللفظتين على الوزن الصرفي نفسه، لكنها الدقة والأمانة، التي نفتقدها اليوم في أخلاقنا كثيرًا، في سائر مناشط حياتنا!
ومما يدل على الدقة المتناهية والأمانة التامة، وأن الأصل في القراءات القرآنية هو التوقيف، وليس القياس، وإنما يأتي دور القياس العقلي بعد التثبت من الشق النقلي:
في آيات سورة المؤمنون من الآية 84 إلى 88: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}: “سيقولون لله ” الثاني والثالث؛ قرأ البصريان بزيادة همزة وصل وفتح اللام وتفخيمه ورفع الهاء من لفظ الجلالة فيهما، والباقون بحذف همزة الوصل وبلام مكسورة ولام مفتوحة مرققة وخفض الهاء من لفظ الجلالة فيهما، ولا خلاف بينهم في الأول، وهو: سيقولون لله قل أفلا تذكرون أنه بلام مكسورة وأخرى مفتوحة رقيقة مع خفض الهاء.
ثمراتٌ عن الأخلاق المستنبَطة من القراءات القرآنية:
وهنا أشار د. محمد صالحين إلى ثلاث تمراث عن الأخلاق المستنبطة من القراءات القرآنية؛ وهي:
1- قبول التنوع، وتعدد الصواب في القضايا الفرعية:
ذلك أن الأصل في فن القراءات القرآنية أنه قائمٌ على التنوع، وقد استصعب النبيُّ ﷺ مبدأ التفرد، وما زال يستعطف ربه سبحانه؛ حتى استجاب له، وأباح لأمته-بدءًا من عصر النبوة-أن يقرؤوا القرآن الكريم على ما تيسر لهم من اللهجات العربية الصحيحة، شريطة أن يكونوا قد تلقوها عن رسول الله ﷺ، فلما كُتب القرآن الكريم في المصاحف الجامعة، ووزع على الأمصار: جاء الشرط الثاني، وهو موافقة القواعد الإملائية للمصحف الشريف ولو تقديرًا، ثم لما وُضع علمُ قواعد اللغة العربية؛ نحوًا، وصرفًا: جاء الشرط الثالث، وهو موافقة لغة العرب، ولو بوجهٍ من الوجوه.
2- توظيف هذه الأخلاق في حياتنا:
فالمقصد الأساس لهذا البعد الأخلاقي في فن القراءات القرآنية هو محاولة إسقاطه إيجابيًّا على فاعلياتنا الحيوية؛ من تعلم وتعليم، وتعامل ومعاملة، وأفعال وردود أفعال، ومنح وأخذ، ووعظ وتوجيه، وإفتاء وقضاء، وحُكم وسياسة، على مستوى الأفراد، والأسر، والمؤسسات، والهيئات، والحكومات، والدول، والأحلاف، والحكام، والمحكومين؛ لأن التيسير ركنٌ ركين في شريعتنا السمحة الغراء: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، {ولو شاء الله لأعنتكم}.
3- تحقق مثلث الأخلاق كاملاً:
من حيث الإلزام: الذي هو فرعٌ عن كمال الأهلية للمكلفين.. والمسؤولية: التي هي فرعٌ عن حرية المكلف في الفعل، والترك.. والجزاء: المترتب على الإلزام والمسؤولية.
خلاصتان:
وفي ختام بحثه خلص د. محمد صالحين إلى أن العلوم النقلية عامة، وعلوم القرآن خاصة، بحاجةٍ ماسة إلى نفخ روح التجديد العقلي العلمي الرصين المنضبط، لمن يمتلك أدوات التجديد، ويقف على حمولة متينة؛ من امتلاك ناصية العلوم العربية والشرعية من جهة، ويضطلع بوسائل التجديد العقلي من جهة أخرى.
كما انتهى إلى أن علم القراءات بحاجة ملحة إلى بحوثٍ فكرية تجديدية، تُبرز مكامن الحكمة في هذا الفن المتفرد، وتقدمه في صورة تحليلية إحصائية؛ مقاربةً، ومقارنة، وموازنة؛ يتعظم فائدته لدى علماء هذا الفن، وطلابه، وعامة المثقفين الشغوفين.