عند نزول الوحي ترددت في أرجاء مكة أمثلُ قراءة وأسماها، واهتزت أفئدة قريش لجمال الألفاظ وجلال المعاني، فتوزعت بين مؤمن منقاد، ومشرك مكابر لم يمنعه صدوده من الإقرار بأن للقرآن الكريم حلاوة وعليه طلاوة.
بيد أن أطرف موقف سجله التاريخ في يوميات الأذى القرشي هو موقف النضر بن الحارث؛ ففي حين كان صناديد قريش يهاجمون شخصَ النبي ﷺ، ويطعنون في خصاله ومكانته الاجتماعية، سعى النضر بن الحارث إلى النيل من النص، والتلويح بقراءة رخيصة يرى أنها تكافئ القرآن الكريم في تأثيره. لذا كان يتربص بمجالس النبي ﷺ التي ينذر فيها قومه، ويُحدثهم عن نقمة الله التي حلّت بالأمم من قبلهم؛ حتى إذا انصرف النبي خلَفه النضر في المجلس قائلا: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه! ثم يشرع في سرد أخبار ملوك فارس ورستم واسفنديار. فنزل التكذيب الإلهي في ثمانية مواضع من القرآن ليكشف بطلان قراءة رخيصة، لا تعتد بالفارق الجلي بين قول الحق سبحانه وأساطير الأولين.
ولما توطدت المعرفة الدينية، وأصبح الحديث والفقه والمغازي جزءا من الثقافة اليومية في المجتمع الإسلامي، برزت على الهامش قراءة تتمسح برداء الشريعة؛ غير أن مرادها هو تكثير المعجبين، وطلب المكانة التي تحظى بها مجالس العلم والوعظ في قلوب العامة. يتعلق الأمر بالقُصاص والمُذكرين الذين خصهم ابن الجوزي رحمه الله بمصنف يعرض فيه أخبارهم ومخالفاتهم، ونماذج من “قراءتهم” التي أساءت للشريعة من حيث ادعى القُصاص خدمتها وإرشاد الناس إلى مكارمها.
اتسمت تلك القراءة ببث الأحاديث المكذوبة ،خاصة ما تعلق بالترغيب والترهيب، وإنشاد قصائد الغزل التي تهيج النفوس، وأشعار النوح على الموتى. ثم تطور الأمر لاحقا إلى اتخاذ القصص معاشا يتكسبون بها في البلدان. وأدخلوا في الدين ما يُنفر الناس منه، حتى صار أكثر كلامهم، يقول ابن الجوزي، عن موسى والجبل، وزليخا ويوسف، ولا يكادون يذكرون الفرائض ولا ينهون عن ذنب.
من خلال المؤاخذات التي عدّدها ابن الجوزي يتضح أن القراءة الرخيصة تجتهد لتثبيت الوضع القائم، وإقناع الجاهل بجهله بدل تحريره منه. كما تمارس نوعا من التخدير الذي يصد الناس عن التفكير في مشاكلهم، والبحث عن مخرج لهمومهم وانشغالاتهم. ورغم أنه كان من كبار القُصاص، ومدافعا عن الأغراض النبيلة التي تُحققها مجالس التذكير والوعظ، إلا أن الإنصاف حمل ابن الجوزي على التحذير من آفات القراءة الرخيصة التي تتخذ من الدين وعلوم الشريعة مطية لمكاسب دنيوية، فتسهم بلا شك في تبخيس قدر العلم، وحفزِ العوام وأنصاف المتعلمين على الخوض في قضايا وأمور خلافية لا تبلغها عقولهم، فتكون على بعضهم فتنة.
ويسهم التعصب للمذهب والرأي الواحد في تهيئة الجو المناسب لشيوع القراءة الرخيصة، بما تعنيه من الضيق بالاختلاف، والإعراض عن مقارنة الحجة بنظيرتها. وهو الدافع الذي جعل المثقف، ومِن ورائه السياسي في أحيان عديدة، يقود على مر التاريخ حملات شعواء لمنع كُتبٍ وإحراقها، ومطاردة أهلها، والسعي لمحاصرة نشاطهم الفكري في زاوية النسيان.
نستحضر في هذا السياق ما تعرض له الإمامابن حزم بسبب دفاعه المستميت عن المذهب الظاهري، ورفضه الأخذ بالقياس في الأحكام التشريعية، بعد أن صارت مركبا ذلولا لجماعة من الفقهاء، يبررون به طغيان ملوك الطوائف وانحلالهم. كما تقفز إلى الذهن حادثة الإحراق الشهيرة لكتاب “إحياء علوم الدين” للإمامالغزالي زمن المرابطين، وكيف ضاق المشهد الفقهي آنذاك بموقف الغزالي من التصوف، كما ضاق من بعد بنقدابن رشدللأوضاع في الأندلس أثناء شرحه لكتاب “جمهورية أفلاطون”، فرماه الخصوم بتهمة الانحراف عن الدين، وتسطير الضلال في كتبه التي لا تقل خطورة عن سيوف أهل الصليب !
تستهدف القراءة الرخيصة ما يترتب عن القراءة الجادة من مكاسب، كالتحليل والنقد، وتعميق درجة الفهم. ويبدو سعيها واضحا لتبديد الآثار الثقافية التي تجعل من فعل القراءة مدخلا حضاريا. إنها قراءة لتزجية الوقت والمحافظة على مستوى متدن من تفاعل الفرد مع محيطه، لذا فالقارئ هنا ليس بحاجة إلى تدريب أو خبرات مسبقة للتفاعل مع المقروء، مادام النص لا يطمح لأبعد من المتعة والإثارة، وتسطيح الفهم الإنساني.
تعيش القراءة الرخيصة اليوم أزهى فتراتها، فالناقد تخلى عن وظيفته في توجيه حركة القراءة، وأصبح رواج الكتاب مرتبطا بخطة دعائية لا بالقيمة الفكرية. وباتت عبارة “الأكثر مبيعا” دليلا على تجريد القارئ من حرية الاستكشاف، وخضوعه للقوائم المعدة سلفا، بتوجيه من الناشر، وتحفيز من الضجيج المفتعل على مواقع التواصل الاجتماعي!