انشغل العلماء في جائحة كورونا بالإنتاج الفقهي للآراء الفقهية في الفروع، حتى وصل إلى حد الغزارة، لكن لم يكن الانشغال بالإنتاج الأصولي على نفس الدرجة، ففي الوقت الذي شهدت فيه جائحة كورونا إنتاجا غزيرا في الفتاوى الفقهية، ندرت الكتابات الأصولية، التي هي أصل وعماد الفتاوى.
استقراء الاهتمامات الأصولية
فالمتتبع لاجتهادات الفقهاء في جائحة كورونا يلحظ عددا من الاهتمامات من الناحية الأصولية، وعناية الفقهاء بعدد من الأصول، ومن ذلك:
أولا- إعمال الكليات وقلة مناقشة الأدلة:
فغالب الفتاوى التي قد تكون صحيحة من حيث النتيجة، لكن الاستدلال فيها غالبا ما كان يستند إلى العموميات، مثل:” تحقيق المصلحة”، و” حفظ النفس”، و” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، وغيرها.
وقلت الفتاوى التي ناقشت آراء المخالفين بمناقشة الأدلة من الناحية الأصولية، وبيان خطأ الاستدلال بالنصوص والأدلة الأخرى.
وهذا يعني أنه يجب إعمال ( طرق الاستنباط) لأن الاستدلال بالنصوص من جهة، مع اختلاف المحل والواقع، والاستدلال بالمقاصد من جهة أخرى، يظهر ضعف الاستدلال في الرأي الصحيح.
وهذا نوع من الخلل في الاستدلال، فقد تكون النتيجة صحيحة، لكن الاستدلال فيها ضعيف من الناحية الأصولية.
ثانيا- العمل بالرأي المرجوح:
والرأي المرجوح هو الرأي الضعيف من حيث أدلته، مقابل الرأي الراجح القوي المستند إلى أدلة أقوى.
والرأي المرجوح قد يكون مرجوحا داخل المذهب، وهذا مقابل الرأي الراجح المعتمد، وقد يكون مرجوحا عند الفقيه، بحيث يرجح غيره، لكنه مع علمه بضعف أدلته، فهو يقدمه على الرأي الراجح عنده، وهذا هو دلالة الرأي المرجوح.
مثال ذلك: أن يكون الرأي الراجح حرمة المصافحة بين الجنسين، ويكون هذا اختيار المذهب أو الفقيه، لكن الفقيه قد يخالف رأيه هذا أحيانا، في مثل المصافحة بين الرؤساء، حين تكون إحدى الرؤساء امرأة، وهو بروتوكول يصعب معه تجنبه، فيرى القول بالجواز؛ للحاجة أو الضرورة، مثلا.
أما المسائل المعاصرة التي يكون عنوانها قديما، لكن الحالة مختلفة عن المسألة القديمة، مثل: الصلاة خلف الصف، أو الصلاة خلف الإمام بينهما ساتر، فإن رجح القول بالجواز، وهو رأي مرجوح في الفقه القديم، لكنه في الفقه المعاصر لا يسمى مرجوحا، لأن محل الاجتهاد ليس واحدا، ففرق بين الفقه العام وفقه الاستثناء.
ثالثا- إعمال القواعد الأصولية والفقهية:
كما ظهر في الاجتهاد في القضايا المعاصرة الخاصة بجائحة كورونا إعمال للقواعد الأصولية والقواعد الفقهية، وهذا ظاهر بكثرة كاثرة في غالب فتاوى المجامع والمؤسسات والهيئات ودور الفتوى في العالم.
بل يكاد يكون المستند الأول مع إعمال المقاصد.
ومن ذلك: ” إذا ضاق الأمر اتسع”، و” المشقة تجلب التيسير”، و” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” وغير ذلك من القواعد.
رابعا- مراعاة مقاصد الشريعة:
وقد ظهرت مراعاة مقاصد الشريعة في فتاوى جائحة كورونا، حتى إن المقاصد كانت – إن صحت التسمية- ( بطل الاجتهاد)، فغالب الفتاوى في الجائحة استندت إلى مقصد حفظ النفس، واعتبار أن صلاة الجماعة والجمعة من المكملات وليس من المقاصد، وأن التعارض بين حفظ الدين المتمثل في الجمع والجماعات من جهة، وبين حفظ النفس من جهة، ليس تعارضا بين المقصدين، لأن التعارض يكون بين أصول حفظ الدين، والجمع والجماعات ليست من الأصول، لأن لها بدلا، وهو إقامتها في البيوت، بخلاف حفظ النفس فليس لها بدل إن ماتت، واعتمدت المقاصد في منع العمرة والحج، وتعطل المصالح الدنيوية وغيرها.
خامسا- رفع الحرج وإعمال الرخص:
وقد ظهر من أصول الاجتهاد في فتاوى كورونا أصل رفع الحرج، وكذلك تتبع الرخص، المبني على أصل التيسير، ولهذا الاستناد في كثير من الفتاوى على أدلة رفع الحرج وإعمال الرخص، كقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]، وقوله تعالى: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 233]، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [النساء: 28].
ومن الدلائل التي استشهد بها من السنة، قول النبي ﷺ:” بعثت بالحنيفية السمحة”، وحديث عائشة:” ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما. بل حكي الإجماع على أن رفع الحرج من الأصول القطعية، كما قال الشاطبي:” إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة، بلغت مبلغ القطع” ( الموافقات، 1/43).
سادسا- إعمال سد الذرائع:
كما كان أصل ( إعمال سد الذرائع) حاضرا في الاستدلال على كثير من الأحكام في فتاوى كورونا، وقد استند إلى عدد من الأدلة والقواعد لهذا الأصل، من ذلك حديث النبي ﷺ:” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”، وأسقطوا أن كل ما يؤدي إلى إتلاف النفس وإيذائها يمنع، وقال ابن رشد : إن أبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها .
مسائل أصولية متروكة
ومع كثرة الأصول التي استند إليها كثير من المفتين من المجامع والأفراد في فتاوى كورونا، إلا أن هناك مساحات أصولية مازالت تحتاج إلى مزيد من البحث والدرس. من ذلك:
أولا- استقراء مناهج الاجتهاد المعاصر:
فالناظر إلى هذا الاختلاف الكبير المتباين في الفتاوى والآراء من الناحية الأصولية، سيدرك أن هذا الاختلاف مبني على الاختلاف في منهج الاجتهاد ذاته، وإن كان العلماء قديما دونوا مناهج الاجتهاد المذهبي، أو حتى مناهج الاجتهاد الحر، فإننا اليوم بحاجة إلى الوقوف على مناهج الاجتهاد المعاصر في جائحة كورونا، سواء كانت مناهج المجامع والمؤسسات ودور الإفتاء التي تمثل الاجتهاد الجماعي، أو مناهج المفتين فرادى، للاستفادة من تلك المناهج.
ثانيا- بيان مثارات الغلط:
كذلك من المسائل الأصولية التي يجب دراستها بيان مثارات الغلط، من ذلك عدم التفريق بين الحكم والفتوى، ومنه: عدم بيان محل الإشكال في المسألة المجتهد فيها، ومنها: القصور في تصور المسألة وفهمها وفهم المحل والواقع، ومنها: مراعاة الحالة السياسية وخشية الخروج عن الرأي العام، ومنها: الشذوذ في الاجتهاد والفتوى وغير ذلك من مثارات الغلط، التي إن عرفت؛ ساعد ذلك في ضبط الاجتهاد.
ثالثا- تحرير العلاقة بين المقاصد والنصوص الشرعية:
وهي إشكالية كبرى في الاجتهاد المعاصر، حيث يلاحظ في الإفتاء مقابلة النصوص الشرعية ومعارضتها بالمقاصد الشرعية، وهو مسلك، وإشكالية معارضة النصوص بالمقاصد من أصعب الإشكالات الأصولية عند الفقيه المجتهد، فالنظر الأصولي يستحيل معه تعارض المقاصد الشرعية مع النصوص الشرعية، ومن هنا؛ وجب فك ذلك الاشتباك، إما بظنية المقاصد، وإعلاء النصوص القطعية في الثبوت والدلالة، وإما تأويل النص إن كانت المقاصد قطعية، أو غير ذلك من وسائل فك الاشتباك والمعارضة بين المقاصد والنصوص.