القناعة كنز لا يفنى، والسعادة الأسرية كل السعادة في الرضا بما قسمه الله عز وجل لنا من الرزق. والنبي ﷺ وضع لنا المقياس الحقيقي الذي نقيس به الغنى، فعن أبي هريرةَ عن النبيِّ ﷺ قال:«ليسَ الغِنى عن كثرةِ العَرَض، ولكنَّ الغَنى غِنى النفس». ( أخرجه البخاري 6446، ومسلم 1051).
والله عز وجل نهانا أن نتطلع إلى ما عند الآخرين لأنه في حقيقة الأمر فتنة لهم وليس دليلا على محبة الله عز وجل لهم يقول الله عز وجل:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. (سورة طه: 131)
والمسلم مأمور بأن ينظر إلى من هو دونه حتى لا يزدري نعمة الله عليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ:«انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ. فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللّهِ». (أخرجه مسلم 2963).
وعدم الرضا بما قسمه الله من الزرق فيه إساءة للأدب مع الله عز وجل وهو الخالق الرازق المنعم وفيه اعتراض على حكمه وقضائه.
وسيدنا إبراهيم عليه السلام أمر سيدنا إسماعيل بطلاق زوجته التي اشتكت حالهم وقالت إنهم في جهد ومشقة وأمره بإمساك زوجته التي حمدت الله وقالت إنهم في خير وسعة فقد ورد في الحديث:«فجاء إبراهيمُ بعدَما تَزوَّجَ إسماعيلُ يُطالِعُ تَرِكتَهُ، فلم يَجد إسماعيل، فسألَ امرأتَهُ عنه فقالت: خرَجَ يَبتغي لنا، ثم سألها عن عَيشِهم وهَيْئِتهم فقالت: نحنُ بشَرّ، نحنُ في ضيقٍ وشدَّة، فشكَتْ إليه. قال: فإِذا جاءَ زوجُكِ فاقرَئي عليهِ السلام وقولي لهُ يَغَيِّرُ عَتبةَ بابه. فلما جاء إسماعيلُ كأنهُ آنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسأَلَنا عنك فأخبرتُه، وسألني كيف عَيشُنا، فأخبرتهُ أنا في جهدٍ وشِدَّة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرَني أن أقرَأ عليكَ السلام، ويقول: غَيِّر عتبةَ بابك. قال: ذاكِ أبي، قد أمرَني أن أُفارِقَكِ، الحَقِي بأهلِكِ، فطلَّقَها، وتزوجَ منهم أخرَى، فلَبِثَ عنهم إبراهيمُ ما شاءَ الله، ثم أتاهم بعدُ فلم يَجِدْه، فدخَلَ على امرأته فسألها عنه فقالت: خرَجَ يَبتغِي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشِهم وهَيئِتهم فقالت: نحن بخيرٍ وسَعَة، وأثنَتْ على الله. فقال: ما طعامُكم؟ قالتِ: اللحمُ. قال فما شرابُكم؟ قالتِ: الماء. قال: اللّهمَّ بارك لهم في اللحم والماء. قال النبيُّ ﷺ: ولم يكن لهم يومَئذٍ حبّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يَخْلو عليهما أحدٌ بغيرِ مكةَ إلا لم يُوافِقاهُ. قال: فإِذا جاءَ زوجُكِ اقرَئي عليهِ السلام، ومُريهِ يُثبتُ عتبةَ بابه. فلما جاءَ إسماعيلُ قال: هل أتاكم مِن أحد ؟ قالت: نعم، أتانا شيخُ حَسنُ الهيئِة ـ وأثنَتْ عليه ـ فسألني عنكَ فأخبَرْتهُ، فسألني كيف عيشُنا فأخبرتهُ أنّا بخيرٍ. قال: فأوصاكِ بشيءٍ قالت: نعم، هو يقرأُ عليكَ السلامَ، ويأمُرُكَ أن تُثبِتَ عتبةَ بابِك. قال: ذاكِ أبي، وأنتِ العتبةَ، أمَرَني أن أمسِكَكِ». (صحيح البخاري: 3364).
ولنأخذ هذا الحديث من جوامع كلم النبي ﷺ فعن أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله:«مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِن أو يُعَلِّمُ مَنْ يعْمَلُ بِهِنَّ؟» فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ الله. فَأَخَذَ بِيَدِي فعَدَّ خَمْساً وَقَالَ:«اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِما قَسَمَ الله لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ ما تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ». أخرجه الترمذي (2305).
والتسليم والرضا بقضاء الله عز وجل يفتح للمسلم أبواب العطاءات والمنح الربانية وهو باب من أبواب السعادة فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:«من سعادة ابن آدم استخارته الله، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله عز وجل». (أخرجه الترمذي (2151)، وأحمد (1444) واللفظ له).
ومن المواقف التي يجب أن نأخذ منها الأسوة والعبرة والتي تظهر لنا وبجلاء كيف نسلم ونرضى بقضاء الله عز وجل موقف الصحابية الجليلة أم سليم التي مات ولدها وكان زوجها غائبا فلما عاد لم تفاجئه وتفجعه بخبر موت إبنهما ولكنها مهدت لهذا الخبر أحسن تمهيد فعن أَنَسِ بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال:«كان ابنٌ لأبي طَلحةَ يَشتكي، فخَرَجَ أبو طلحةَ، فقُبِضَ الصبيُّ. فلما رَجَعَ أبو طلحةَ قال: ما فَعَلَ ابني؟ قالت أمُّ سُلَيمٍ: هو أسكَنُ ما كان. فقرَّبتْ إليه العَشاءَ فَتَعَشَّى، ثم أَصَابَ منها، فلما فَرَغَ قالت: وارِ الصبيَّ. فلما أصبَحَ أبو طلحةَ أتى رسولَ اللَّهِ ﷺ فأخبرَه فقال: أعرَستُمْ اللّيلةَ؟ قال: نعم. قال: اللَّهمَّ باركْ لَهُمَا. فَوَلَدَت غلاماً. قال لي أبو طلحةَ: احفَظْهُ حتى تأتيَ به النبيَّ ﷺ، فأتى به النبيَّ ﷺ وأرسَلَتْ معه بتمراتٍ، فأخذَهُ النبيُّ ﷺ فقال: أمعَهُ شيءٌ؟ قالوا: نعم، تمراتٌ، فَأخَذَها النبيُّ ﷺ فمَضَغَها ثم أخذَ من فيهِ فجعلها في فيِّ الصبيِّ وَحَنَّكهُ بهِ وسماهُ عبدَ الله». (أخرجه البخاري (5470)، ومسلم (2144)).
وذلك ببركة دعاء النبي ﷺ لأم سليم وزوجها وجزاءاً لها على صبرها وتسليمها بقضاء الله عز وجل.
وما أحوج أفراد الأسرة اليوم إلى القناعة والرضا بما قسمه الله عز وجل لهم من الرزق والتسليم بقضائه، ففي ذلك كله خير كثير، وسعادة في الدنيا والآخرة.