يشهد العديد من البلدان الإسلامية في هذه الأيام الكثير من الانشقاق والاقتتال الاجتماعي، ويشهد كثير منها نوعاً من الضعف في الأواصر التي تمنح مجتمعاتها التماسك والتلاحم، والحقيقة أن كثيراً من المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية لا تستحق اسم (مجتمع) بل هي عبارة عن حشود من الناس الذين جمعتهم الأقدار في مكان واحد، وذلك لافتقارهم إلى القيم والمعاني التي تجعل منهم بنية بشرية متميزة ومتمايزة عن غيرها.
وحين تساءلت عما يشكل فارقاً بين (المجتمع) و(حشد الأجساد) أو بين (المجتمع) و(السكان) وجدت أن لدينا خمس قيم جوهرية يضمن توفرُها لأي تجمع بشري الفوزَ بلقب مجتمع عن جدارة، وهذه القيم إسلامية وكونية في آن واحد، ويمكنني تسليط الضوء عليها بإيجاز شديد، وذلك عبرالمفردات الآتية :-
1ـ الثقة: تعني الثقة على الصعيد الاجتماعي وجود قدر جيد من اطمئنان الناس بعضهم لبعض في معاملاتهم اليومية. إنهم يشعرون بوجود قدر من المصداقية لدى أكثرهم، ويشعرون بأن الخداع محدود الانتشار.
والحقيقة أن الثقة جزء عزيز من رأسمالنا الاجتماعي، وعنصر أساسي في التنمية وفي العيش الهانئ. الثقة هي ناتج تعامل الناس الجيدين مع بعضهم، وكلما لمسوا على نحو واضح وجود النوايا الطيبة والصدق والاستقامة والالتزام بالمواثيق والنظم السارية ارتفع مستوى الثقة السائدة بينهم و العكس صحيح.
2ـ العدل :لا يستطيع أي وطن أن يجعل من نفسه محوراً يدور أبناؤه في فلكه، ويفخرون بالانتماء إليه من غير توفر حد معقول من العدل، والحرص على أن يأخذ كل ذي حق حقه. إن الظلم ليس ذا عاقبة سيئة فحسب!! . إنه في حد ذاته إفساد في الأرض، وهو قادر دائماً على أن يفتح أمام الشيطان كل الأبواب ليوسوس للمظلوم بكل أشكال الشرور، وإن التاريخ ليشهد بأنه حين يشيع الظلم لا يبقى شيء مقدَّس يمكن أن يتورع المظلوم عن ممارسته، حتى التآمر على الوطن .
أبسط صور العدل : هو العدل بين الأفراد، وهناك العدل بين المناطق، والعدل بين الأجيال، فلا يصح تركيز التنمية في منطقة، وترك الفتات لمنطقة أخرى، كما لا يصح لجيل أن يتمتع بخيرات الوطن ، ويترك للأجيال التي بعده القشور والسموم والتلوث.
3 ـ الموضوعية : لا يخلو مجتمع من مشكلات ومن كل الأنواع وعلى كل المستويات، وإن الناس في حاجة دائمة إلى أن يفهموا مشكلات بلادهم بأعلى قدر ممكن من الموضوعية والواقعية؛ فهذا يريحهم من جهة، ويدفعهم إلى التفاعل مع الحلول المقترحة لتلك المشكلات من جهة أخرى، وإن من مسؤولية الإعلام والإعلاميين العمل على تصوير تلك المشكلات بالدقة والنزاهة المطلوبة، ولاسيما عند الحديث عن جذور مشكلات البلاد وأسبابها، وما لم يتم ذلك فإن قسماً من الناس – على الأقل- سيشعرون أن الإعلام يتاجر بمشكلاتهم ومآسيهم، وهذا ينزع من النفوس الثقة بكل ما يُقال لهم، مما يجعلهم يُعرضون عن الانخراط في أي مشروعات وطنية ذات بُعد إصلاحي و نهضوي .
4 – الاحترام المتبادل: احترام الإنسان للآخرين، هو فرع عن احترامه لذاته، ولهذا فإن الواحد منا حين يتلقى إساءة من شخصٍ ما يقول له: احترمْ نفسك؛ لأنه حين يحترم نفسه، فإنه يحترم غيره، لكن الناس من وجه آخر لا يحترمون أنفسهم إذا لم يعاملهم الآخرون باحترام.
والحقيقة أن لدينا الكثير من المشكلات التي لا يمكن حلها عن طريق القضاء أو الوعظ، وإنما يحلها الاحترام المتبادل، وإن من طبيعة الأشخاص المحترمين جداً أنهم يمنحون الاحترام لمن يستحقه ولمن لا يستحقه.
احترام الآخرين يشتمل على احترام آرائهم وميولهم ورغباتهم، مادامت في إطار المباح والمشروع .
5 – الولاء : هو الثمرة التي نقطفها من وراء وجود القيم الأربع السابقة. إن الوطنية في معناها العميق هي الشعو بشرف إلى الانتماء إلى الوطن، وحين يكون هذا الشعور واضحاً وقوياً فإنه يبعث صاحبه على التضحية من أجل بلاده، ويدفعه إلى المساهمة في رفعتها بشتى الوسائل، وحين يُفقد تصبح الوطنية عبارة عن بوابة لاقتناص الفرص والمكاسب.
وقد قال أحدهم مر ة: ” لماذا أدافع عن وطن لم يشبعني من جوع، ولم يؤمِّني من خوف؟!”
حين ترى تفكك مجتمع، فإنك لن نستطيع استعادة ما فقده من تماسك من غير التخلص من الأسبابالتي أدت إلى حدوث ذلك التفكك، وهذا يضعنا في مواجهة أنفسنا ومواجهة الحقيقة، ومن هنا تكون بداية الإصلاح .