لا أزال أتذكر افتتاني، وأنا بعد قارئ يافع، بذلك الكم الذي يبدو أنه لا يود أن ينتهي من مؤلفات العلامة محمد ناصر العبودي، التي وثّق فيها رحلاته في طول العالم وعرضه وارتفاعه وعمقه، كان يتراءى لي أنّ العبودي يشبه كيس الحاوي، كلما مددت يدي إليه خرجتُ بكتاب يغطي خانةً جديدة من العالم.
ومرت سنوات قبل أن أعرف أن ما ألّفه العبودي في حقل الرحلات -وحسب- يزيد عدده عن عدد دول العالم، وأنه تجوّل في الأرض كما لم يفعل إلا القليل من الناس، وحبس ظلال تجواله كما لم يفعل أحد.
وقبل بضع سنوات، كنت أتجول في أحد معارض الكتب حين رأيت صهر العبودي وناشر كتبه، الدكتور محمد المشوح، فسلمت عليه، ولم يكن بيني وبينه من معرفة مسبقة، لولا مقالٌ كتبته عن العبودي.. رحب بي الرجل بحفاوة، وتحادثنا لدقائق قبل أن أسأله عن كتب الرحلات التي خطها الشيخ العبودي ولم تخرج بعد للنور فأخبرني أنها بين الستين والسبعين!
مر وقتٌ قبل أن يستبين لي أن هناك نماذج أخرى فذة من الكتاب المجيدين المكثرين، من أولئك الكتبة الذين يخيل إلى المرء أنهم آلات كتابة لا أكثر، إنسان واحد يكتب بقلمه عشرة آلاف صفحة وأكثر من ذلك بكثير أو بقليل.
وقادني التأمل إلى أن أقول لنفسي ببساطة: إن هؤلاء الناس لم يصبحوا كتاباً بارعين ومُجيدين، ومكثرين بالإضافة إلى ذلك.، إلا لأنهم تنازلوا عن أشياء كثيرة عدا الكتابة!
فالمخرجات الكتابية الكثيفة ليست إلا نتيجة طبيعية لسلسلة من الرفض لأمور كثيرة.
على سبيل المثال: رفض الكاتب لما عدا الكتابة من التزامات وظيفية، سواءٌ كان ذلك الرفض كلياً أو جزئياً، خالصاً أو مشوباً بشبهة من نوع ما.
فقد كانت مرغريت ميتشيل صحفيةً مثابرةً قبل أن تستقيل من وظيفتها وتتفرغ لكتابة روايتها اليتيمة “ذهب مع الريح” وهي الرواية التي طارت في الآفاق وسارت مسير الشمس فوق كل قارة وترجمت إلى لغات لا تحصى.
وتنازل إرسكين كالدويل عن مشواره الجامعي من أجل العمل في الكتابة، فعمل صحفياً، ثم تخلى عن الصحافة وصار يكتب القصص، مضحياً بالراحة والرفاه، ومغامراً في قصةٍ من قصص الجد والمجد الأدبي انتهت به نهايةً حسنةً بمعايير النجاح الأدبي.
والكتابة البارعة ثمرةٌ لكثير من التنازلات عن الالتزامات والممارسات المزاحمة للكتابة: فتجد الواحد منهم يلزم نفسه الكتابةَ في أثناء السفر كلما عرض له منظرٌ عادي أو غير عادي، يدون ملاحظاته أثناء التجوال طوال نهاره، ثم إذا عرضت له ساعة فراغ بين فقرات البرنامج ملأها كتابةً.
ولما سئل غازي القصيبي مرةً عن سر قدرته على الإنتاج الأدبي على رغم متاعب الوظيفة وانشغالات الوزارة: أجاب بأنه حازم في استثمار وقته، وأنه لا يبرح منزله في المساء لأي دعوة مجاملة ونحوها.
وأعرف كاتباً طاعناً في السن، لا يستقبل الزوار، ولا يذهب إلى الأعراس، ولا يتنزه مع عائلته، ويقول إن كل ذلك من مضيعات الوقت!
وهذا اللون من الكتّاب اتخذوا الإنتاج الكتابي إستراتيجيةً لحياتهم، ومحوراً حقيقياً لها، ومركزاً لأنشطتهم، تلغي ما عداها، ولا يلغيها ما عداها، والإستراتيجية ليست ما يكتبه الناس، ولا ما يعلقونه على الجدران، ولكنها ما يفعلونه، ما تصدقه جداول أعمالهم، وما تنصرف له أفكارهم وجهودهم ومواردهم.
والكتابة البارعة ثمرةٌ مباركة لرفض من لون آخر: هو الرفض في القراءة، فالكاتب يرفض أن يقرأ ما لا يفيده في مشروعه الكتابي بشكل مباشر أو غير مباشر، ويرفض كذلك اقتناء الكتب التي تشكل زوائد تثقل الكاهل في حال التخزين والانتقال، وترهق الورثة بعد الوفاة؛ فالمكتبةُ في عرف الكاتب البارع ليست مستودعاً مهجوراً للكتب، بل حيزٌ نشطٌ، يفيد منه الكاتب أيما إفادة؛ فلا يسمح لكتاب يغلب على الظن عدم استعماله أن يزاحم باقي الكتب، ويتخلص منه فوراً عبر تقديمه لمن يفيد منه.
كما أن الكاتب البارع يرفض الاستغراق في القراءة على نحو يقلل من جدواها، ويوقن أن الكاتب الممتاز ليس الذي يبتلع الكتاب، ولكنه الذي يهضمه، ويوقن أن الهضم الصحي نتيجةٌ منطقية للمضغ الجيد، ولذا فهو يختار ما يقرأ، لأن العمر أقصر من أن يضيع في بلع المفيد، أو في مضغ التافه!
والكاتب البارع يرفض الكتابة اليومية التي تستنزف طاقة الدماغ، ويفضل الالتزام بمشروع كبير على مدى طويل، يساهم مرور الوقت في إنضاجه، وتفيد المراجعة في تنقيحه وتنضيده. فالكم كما يكون سبيلاً إلى الكيف، يكون أحياناً سبيلاً إلى تقليل الكيف والغض من الجودة! ومن تابع القراءة لكتاب المقالات اليومية عرف أنهم يصعدون فيحلقون، ويهبطون فيسفّون، ولكنهم يعدون الالتزام إنجازاً، ولا بأس أن يكون المُخرج درةً ثمينة أو حصاةً لا تساوي شيئاً.
والكتابة البارعة هي النسخة النهائية من نصوصٍ مرت بمرحلةٍ من المراجعة الصارمة بغرض الرفض: رفض الغلطات الإملائية، ورفض الحشو الذي لا يجدي، ورفض التعابير الرخوة، ورفض الجمل الركيكة، إلى غير ذلك مما يستحق أن يُرفض في كل نص.
ولكن الكتابة البارعة لا تستقيم إلا برفض الرفض!
فكثيراً ما يؤدي طلب الكمال إلى النقصان الكامل الذي يبلغ مرحلة العدم أحياناً، وقد حدثني أحد الباحثين أنه كان مبتلىً بطلب الكمال في أبحاثٍ له قد أنجزها منذ مدةٍ، لكنه كان يرفض نشرها لأنها تحتاج في نظره إلى مزيد من المراجعة والتدقيق والإضافة والتنقيح، فطلب منه أحد أساتذته أن يرسل له نسخةً من تلك الأبحاث للاطلاع؛ ولما وصلته قام من فوره فأرسلها إلى مجلات محكّمة، أجازتها وأخذت طريقها إلى النشر بسرعة الصاروخ. وكان ذلك النشر دواءً لداء الحرص على الكمال!
وإن من الدعاء الذي يرجى للكاتب من وراء استجابته خيرٌ كثيرٌ أن يقول: اللهم ارزقني القدرة على معرفة ما أرفض فعله حتى أكتب جيداً..